منذ أن عرفت البشرية الصراعات والحروب والتناحرات، ما بين العسكري والمدني، ما بين المسلح والأعزل، ما بين الغازي والمقاوم، ما بين الغريب وصاحب الدار، ما بين الظالم والمظلوم، لأول مرة في التاريخ، نجد سقوط ضحايا في صفوف المعتدين المدججين بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، ولا ضحية واحدة تذكر في صفوف المعتدى عليهم من المدنيين الآمنين في بيوتهم أو خيماتهم...
لأول مرة يحدث هجوم عسكري مسلح من طرف فيالق من الجيش النظامي، على سكان متظاهرين سلميا في خيماتهم لا يملكون حتى ملاعق للأكل، لأنه ببساطة لا قوت لهم، ويسقط رسميا منهم 11 عسكريا أو ربما يزيد حسب ما ستجود به الأيام القادمة، في حين لا يخدش وجه حتى طفل صغير من المدنيين، بالرغم من أن آثار ما يناهز 6500 خيمة تحولت إلى أطلال كأنها قصفت بقنابل نووية أو بالفسفور الأبيض أو أن حرب النجوم مرت عليها...
مفارقات مخزنية زائفة
غريب أن نجد العسكر الذين سارعوا لمجرد الشبهة المزعومة، بإطلاق الرصاص الحي على سيارة تحمل طعاما ويقتل أحد الأطفال من ركابها وهو ناجم الكرحي (14 عاما)، والسبب، حسب مزاعم المعتدين، أن الضحايا أطلقوا النار على الحاجز العسكري، بالرغم من أن الحقيقة غير ذلك مطلقا، والحادثة مجرد اعتداء على هؤلاء الأبرياء الذين لا يملكون حتى ملعقة حديدية. في حين أن الجيش تجنّد عن بكرة أبيه وهجّم على مخيمات لم يستسلم سكانها لظلم المستوطنين في المدينة ولا لغدر العسكريين في تيه الصحراء، وكل ذلك لم يدفع عسكريا واحدا لإطلاق ولو رصاصة واحدة طائشة جرحت مواطنا أو حتى ممن يسمونهم "المجرمين المطلوبين للعدالة"...
لأول مرة، نرى أن الجيش تجنّد بكاميرات تصوير سواء عبر طائرات الهليوكوبتر أو سيارات "جيب" أو حتى أخرى مصفّحة، وتنقل لنا صورا بشعة لجثث عناصر الجيش، وتسجل مشاهد لآخرين من "المشاغبين" وهم يذبحون "العسكر الطيب" الذي جاء يحمل أكاليل من الزهور للمنتفضين المغضوب عليهم، بل وضع رقبته تحت أقدام هؤلاء حتى يذبحونه، ويقتنع العالم بـ"مغربية" الصحراء و"إرهاب" البوليساريو... وهكذا تحول المدنيون العزّل والمسالمون إلى تتار والعسكريون الغزاة إلى مسلمين مستسلمين!!
لأول مرة نجد جيشا يهاجم شعبا آمنا، ويعتقل المئات ممن واجهوه بالسلاح الأبيض حسب هذا الغازي طبعا، بل يزعم أن جيشه تعرّض لمواجهة دموية وقاتلة، في حين لم يسقط ضحية واحدة من هؤلاء "الدمويين" و"الشياطين" و"الارهابيين"، الذين صار المغرب كله بسببهم في حداد يبكي ضحاياه، ويخرج في مسيرات "عفوية" يقودها الوزير الأول عباس الفاسي وطاقمه، للتضامن مع وطنه الذي تعرّض لمؤامرة أجنبية الطرف فيها بعض الدول الكبرى، ويكفي، حسب المزاعم نفسها، أنه تم اعتقال ضباط مخابرات "أجانب" كانوا يقودون تلك الحرب، ولحدّ اللحظة لم نعرف عنهم شيئا... هل يمكن أن نصدق ذلك وخاصة أن الراوي غير موثوق فيه ومشهود له لدى العامة بالكذب والتلفيق والخرف أحيانا؟!
إنها مفارقة حمقاء وغبية وعجيبة في منطق المخزن وأبجدياته، والتي لا يمكن أن يتخيّلها عاقل، ومستحيل أن يصدقها من في قلبه مثقال ذرّة من الوعي والفهم!
الجيش الذي باغت المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال والعجائز والنساء، في ساعة مبكرة وبطريقة همجية، دفعت الشباب الصحراوي للدفاع المستميت عن أعراضهم المستباحة في وضح النهار، هل يمكن أن نصدق أنه لم يسقط ولو ضحية واحدة من هؤلاء الصحراويين، حتى وإن كانت بالرصاص الطائش، يعترف به المخزن ولو من باب ذرّ الرماد في العيون، كما فعل مع مدنيين، قيل إن أحدهما مغربي دهسته سيارة في العيون، والآخر صحراوي توفي بسبب ضيق حاد في التنفس؟!!
من يصدق أن العسكري الذي يحمل في يديه رشاشا معبأ بثلاثين طلقة، وفي جيده ذخيرة حيّة إحتياطية وقنابل، يرى بأم عينيه رفيقه وربما صديقه أو دفعته، ينحر بالسكين من الوريد إلى الوريد، أو يرى آخر يتبول ـ أكرمكم الله ـ على جثة هامدة لأحد زملائه، ولا يطلق النار لحمايته وإنقاذه أو انتصارا لقداسة الموتى، اللهم إلا إن كانت الصورة تمثيلية فقط أو أن هذا العسكري مخدر فاقد لوعيه إن لم نقل كلاما آخرا؟!
من يصدقهم؟
من يصدق أن الذين قتلوا الطفل الكرحي بالأمس وقبله الكثيرين ممن لا حصر لهم، وقد كان ينقل بعض الطعام لأفراد أسرته الذين يتضورون جوعا في خيمتهم، وبمجرد شبهة أو كذبة سمجة، ولا يقتلون أطفالا آخرين ممن استماتوا في الدفاع عن خيماتهم وأخواتهم وأمهاتهم؟!!
بالله عليكم، إن كانت تساؤلاتي غير بريئة أو نواياها مبيتة، كما قد يتوهّم البعض، أرجو النظر إلى عدد ضحايا المحتل الأمريكي وكم يقابلها في الجانب العراقي أو الأفغاني. فقد أظهرت الوثائق التي نشرها مؤخرا موقع ويكيليكس، من أن الضحايا العراقيين تجاوز عددهم 285 ألف ضحية، بينهم 109 ألف قتيل، 63 بالمئة منهم مدنيون، و15 ألفا مجهولي الهوية. في حين أن فريقا من الباحثين الأمريكيين والعراقيين يعملون في مجال الصحة، قدروا عدد الضحايا بـ655 ألف قتيل، وذلك في مقال نشرته مجلة "لانسيت" الطبية، في أكتوبر 2006. ولو نأخذ على سبيل الاستدلال رقم 4377 قتيل أمريكي، الذي تم تسجيله إلى غاية 25 / 01 / 2010، وأضفنا له 316 من القوات الأخرى، ليصل المجموع إلى 4693 قتيل. أما عدد المصابين في صفوف الجيش الأمريكي فبلغ 31690 مصاب حتى 30 سبتمبر 2009. هذا حسب تقرير نشرته الأمريكية دبورا وايت تحت عنوان "حقائق حرب العراق، نتائج وإحصائيات حتى 25 جانفي 2010".
وبعملية حسابية بسيطة يتقنها تلاميذ المدارس الابتدائية، نجد أن حوالي 61 عراقيا ممن قتلوا، مقابل شخص واحد من قوات الاحتلال الأمريكي، وطبعا أن الطرف العراقي فيه ضحايا من المقاومة المسلحة أيضا. هذا إن أخذنا طبعا بتقدير وثائق ويكيليكس، أما في التقدير الآخر فنجد حوالي 140 عراقي مقابل أمريكي واحد. أما إن أخذنا بتقديرات عراقية ذهبت إلى أن الضحايا فاق عددهم المليون سنجد أرقاما أخرى مخيفة.
في أفغانستان، واستنادا للدراسة نفسها، نجد أن عدد الضحايا الأمريكيين بلغ 1666، وفي المقابل نجد أنه خلال النصف الأول من عام 2010 قد بلغ عدد الضحايا المدنيين 1271 قتيل، هذا حسب تقرير للأمم المتحدة نشر في 10 / 08 / 2010. مما يعني أن ضحايا العشر سنوات تقريبا من الجانب الأمريكي، لم يصل ما سقط خلال عام ونصف فقط من الجانب الأفغاني (أمريكيين مقابل 3 أفغان تقريبا)، لو أضفنا لها حوالي 870 سقطوا في 2009، بناء على أن الزيادة 31 بالمئة حسب التقرير المشار إليه، حيث أن عدد الضحايا في 18 شهرا تجاوز 2140 ضحية.
ولو نذهب إلى كل الحروب التي حدثت عبر التاريخ، أو حتى النزاعات المحلية والأهلية، أو حتى في مجال مكافحة الشغب، لوجدنا أن ضحايا العسكر يقابلها دوما العشرات في أقل الأحوال من الجانب المدني، ولم يحدث مطلقا أن سقط العسكريون المسلحون ولم يخدش وجه شخص واحد من المدنيين العزّل.
قد يقول البعض إن الأمر يختلف مما يحدث في الصحراء الغربية، وإن كنا نقرّ بوجود بعض الاختلاف بين البيئتين، حيث أن اتفاق وقف الحرب ساري المفعول منذ سنوات على الأقل من جانب جبهة البوليساريو، أما من الجانب المغربي فقد اعترف وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري بأن بلاده في حالة حرب، وذلك في حوار مع صحيفة "ال باييس" الإسبانية نشرته يوم السبت 27 / 11 / 2010.
وأيضا أن الصحراويين يناضلون سلميا من أجل إسماع صوتهم وتقرير مصيرهم وفق الشرعية الدولية، هذا إذا أضفنا أن الشعبين (الصحراوي والمغربي) تجمعهما أواصر الأخوة في الدين واللغة والعرق والجوار، عكس ما يجري في العراق وأفغانستان. إلا أنه برغم ذلك، وجب أن نؤكد على أمر هام، أن الجانب المغربي يتعامل مع الصحراويين بمنطق الحرب السرية الخفية، التي تسري في الظل وغير معلنة للعالم، يحدث ذلك في ظل تعتيم إعلامي وحقوقي رهيب، ومنع وسائل الإعلام المستقلة ونشطاء حقوق الإنسان من الوصول إلى هذه المناطق التي يحدث فيها ما يندى له الجبين. وما قصة الحكم الذاتي والجهوية الموسعة وتنمية ما يسمى "الأقاليم الجنوبية" إلا خداع انكشف زيفه مع مرور الأيام، وفضحته أكثر جريمة العيون التي ستبقى وصمة عار في جبين المجتمع الدولي.
على هامش مجزرة العيون
بحكم زيارتي إلى الصحراء الغربية مرتين خلال العام الجاري، لمست حقدا رهيبا يكنّه المغاربة للصحراويين لا يمكن تخيّله، بل يتمنّون أن يدفنوهم في رمال الصحراء ويرتاحوا منهم للأبد!!
حتى أولئك الذين يسمونهم "العائدين لأرض الوطن" و"الفارين من جحيم تندوف" في إطار شعار "الوطن غفور رحيم"، ينظرون إليهم بعيون الريبة والشك والكراهية والعدوانية، لأنهم مصابون بداء "الانفصال" الذي لا شفاء منه أبدا حسب الاصطلاحات المغربية، فضلا عن أن الجهات الأمنية السرية تصوّرهم على أنهم مجرد مرحلة عابرة يُراد منها تفكيك البنية الداخلية لجبهة البوليساريو، وبعدها يتخلّصون منهم وفق رؤية أمنية بحتة طبخت فصولها في دهاليز سرية.
فترى كيف يكون الحال عند العسكريين ممن يرون أنفسهم مستهدفين في أرواحهم وأنهم يدافعون عن "وحدتهم الترابية" ويواجهون عدوّا مدعوما من الخارج حسب مقاربات مخزنية متعارف عليها؟
لقد حدثني الضابط المغربي الفار، عبد الاله عيسو، الذي عمل ضابطا في الصحراء الغربية لسنوات، كما حدثني غيره من العسكريين السابقين، من أن تكوينهم البسيكولوجي أثناء دراساتهم العسكرية، كله لا يتعدى زرع الأحقاد والكراهية لكل ما هو صحراوي، سواء كان مدنيا أو عسكريا، ويتعرضون لغسيل مخ ممنهج عبر مواد يتلقونها من مثل "الأمن العسكري"، "التاريخ العسكري"... وهذا من أجل زرع وتنمية العنف تجاههم، جرى ذلك خلال فترة الحرب مع جبهة البوليساريو، ولا يزال يجري حتى الآن تحسّبا لنشوب حروب أخرى.
يتبع
نوافذ
بحكم زيارتي إلى الصحراء الغربية مرتين خلال العام الجاري، لمست حقدا رهيبا يكنّه المغاربة للصحراويين لا يمكن تخيّله، بل يتمنّون أن يدفنوهم في رمال الصحراء ويرتاحوا منهم للأبد.
من يصدق أن الذين قتلوا الطفل الكرحي بالأمس وقبله الكثيرون بمجرد شبهة أو كذبة سمجة، لا يقتلون أطفالا آخرين ممن استماتوا في الدفاع عن خيماتهم وأخواتهم وأمهاتهم؟
الجانب المغربي يتعامل مع الصحراويين بمنطق الحرب السرية الخفية، التي تسري في الظل وغير معلنة للعالم، يحدث ذلك في ظل تعتيم إعلامي وحقوقي رهيب
الاستاذ : أنور مالك
لأول مرة يحدث هجوم عسكري مسلح من طرف فيالق من الجيش النظامي، على سكان متظاهرين سلميا في خيماتهم لا يملكون حتى ملاعق للأكل، لأنه ببساطة لا قوت لهم، ويسقط رسميا منهم 11 عسكريا أو ربما يزيد حسب ما ستجود به الأيام القادمة، في حين لا يخدش وجه حتى طفل صغير من المدنيين، بالرغم من أن آثار ما يناهز 6500 خيمة تحولت إلى أطلال كأنها قصفت بقنابل نووية أو بالفسفور الأبيض أو أن حرب النجوم مرت عليها...
مفارقات مخزنية زائفة
غريب أن نجد العسكر الذين سارعوا لمجرد الشبهة المزعومة، بإطلاق الرصاص الحي على سيارة تحمل طعاما ويقتل أحد الأطفال من ركابها وهو ناجم الكرحي (14 عاما)، والسبب، حسب مزاعم المعتدين، أن الضحايا أطلقوا النار على الحاجز العسكري، بالرغم من أن الحقيقة غير ذلك مطلقا، والحادثة مجرد اعتداء على هؤلاء الأبرياء الذين لا يملكون حتى ملعقة حديدية. في حين أن الجيش تجنّد عن بكرة أبيه وهجّم على مخيمات لم يستسلم سكانها لظلم المستوطنين في المدينة ولا لغدر العسكريين في تيه الصحراء، وكل ذلك لم يدفع عسكريا واحدا لإطلاق ولو رصاصة واحدة طائشة جرحت مواطنا أو حتى ممن يسمونهم "المجرمين المطلوبين للعدالة"...
لأول مرة، نرى أن الجيش تجنّد بكاميرات تصوير سواء عبر طائرات الهليوكوبتر أو سيارات "جيب" أو حتى أخرى مصفّحة، وتنقل لنا صورا بشعة لجثث عناصر الجيش، وتسجل مشاهد لآخرين من "المشاغبين" وهم يذبحون "العسكر الطيب" الذي جاء يحمل أكاليل من الزهور للمنتفضين المغضوب عليهم، بل وضع رقبته تحت أقدام هؤلاء حتى يذبحونه، ويقتنع العالم بـ"مغربية" الصحراء و"إرهاب" البوليساريو... وهكذا تحول المدنيون العزّل والمسالمون إلى تتار والعسكريون الغزاة إلى مسلمين مستسلمين!!
لأول مرة نجد جيشا يهاجم شعبا آمنا، ويعتقل المئات ممن واجهوه بالسلاح الأبيض حسب هذا الغازي طبعا، بل يزعم أن جيشه تعرّض لمواجهة دموية وقاتلة، في حين لم يسقط ضحية واحدة من هؤلاء "الدمويين" و"الشياطين" و"الارهابيين"، الذين صار المغرب كله بسببهم في حداد يبكي ضحاياه، ويخرج في مسيرات "عفوية" يقودها الوزير الأول عباس الفاسي وطاقمه، للتضامن مع وطنه الذي تعرّض لمؤامرة أجنبية الطرف فيها بعض الدول الكبرى، ويكفي، حسب المزاعم نفسها، أنه تم اعتقال ضباط مخابرات "أجانب" كانوا يقودون تلك الحرب، ولحدّ اللحظة لم نعرف عنهم شيئا... هل يمكن أن نصدق ذلك وخاصة أن الراوي غير موثوق فيه ومشهود له لدى العامة بالكذب والتلفيق والخرف أحيانا؟!
إنها مفارقة حمقاء وغبية وعجيبة في منطق المخزن وأبجدياته، والتي لا يمكن أن يتخيّلها عاقل، ومستحيل أن يصدقها من في قلبه مثقال ذرّة من الوعي والفهم!
الجيش الذي باغت المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال والعجائز والنساء، في ساعة مبكرة وبطريقة همجية، دفعت الشباب الصحراوي للدفاع المستميت عن أعراضهم المستباحة في وضح النهار، هل يمكن أن نصدق أنه لم يسقط ولو ضحية واحدة من هؤلاء الصحراويين، حتى وإن كانت بالرصاص الطائش، يعترف به المخزن ولو من باب ذرّ الرماد في العيون، كما فعل مع مدنيين، قيل إن أحدهما مغربي دهسته سيارة في العيون، والآخر صحراوي توفي بسبب ضيق حاد في التنفس؟!!
من يصدق أن العسكري الذي يحمل في يديه رشاشا معبأ بثلاثين طلقة، وفي جيده ذخيرة حيّة إحتياطية وقنابل، يرى بأم عينيه رفيقه وربما صديقه أو دفعته، ينحر بالسكين من الوريد إلى الوريد، أو يرى آخر يتبول ـ أكرمكم الله ـ على جثة هامدة لأحد زملائه، ولا يطلق النار لحمايته وإنقاذه أو انتصارا لقداسة الموتى، اللهم إلا إن كانت الصورة تمثيلية فقط أو أن هذا العسكري مخدر فاقد لوعيه إن لم نقل كلاما آخرا؟!
من يصدقهم؟
من يصدق أن الذين قتلوا الطفل الكرحي بالأمس وقبله الكثيرين ممن لا حصر لهم، وقد كان ينقل بعض الطعام لأفراد أسرته الذين يتضورون جوعا في خيمتهم، وبمجرد شبهة أو كذبة سمجة، ولا يقتلون أطفالا آخرين ممن استماتوا في الدفاع عن خيماتهم وأخواتهم وأمهاتهم؟!!
بالله عليكم، إن كانت تساؤلاتي غير بريئة أو نواياها مبيتة، كما قد يتوهّم البعض، أرجو النظر إلى عدد ضحايا المحتل الأمريكي وكم يقابلها في الجانب العراقي أو الأفغاني. فقد أظهرت الوثائق التي نشرها مؤخرا موقع ويكيليكس، من أن الضحايا العراقيين تجاوز عددهم 285 ألف ضحية، بينهم 109 ألف قتيل، 63 بالمئة منهم مدنيون، و15 ألفا مجهولي الهوية. في حين أن فريقا من الباحثين الأمريكيين والعراقيين يعملون في مجال الصحة، قدروا عدد الضحايا بـ655 ألف قتيل، وذلك في مقال نشرته مجلة "لانسيت" الطبية، في أكتوبر 2006. ولو نأخذ على سبيل الاستدلال رقم 4377 قتيل أمريكي، الذي تم تسجيله إلى غاية 25 / 01 / 2010، وأضفنا له 316 من القوات الأخرى، ليصل المجموع إلى 4693 قتيل. أما عدد المصابين في صفوف الجيش الأمريكي فبلغ 31690 مصاب حتى 30 سبتمبر 2009. هذا حسب تقرير نشرته الأمريكية دبورا وايت تحت عنوان "حقائق حرب العراق، نتائج وإحصائيات حتى 25 جانفي 2010".
وبعملية حسابية بسيطة يتقنها تلاميذ المدارس الابتدائية، نجد أن حوالي 61 عراقيا ممن قتلوا، مقابل شخص واحد من قوات الاحتلال الأمريكي، وطبعا أن الطرف العراقي فيه ضحايا من المقاومة المسلحة أيضا. هذا إن أخذنا طبعا بتقدير وثائق ويكيليكس، أما في التقدير الآخر فنجد حوالي 140 عراقي مقابل أمريكي واحد. أما إن أخذنا بتقديرات عراقية ذهبت إلى أن الضحايا فاق عددهم المليون سنجد أرقاما أخرى مخيفة.
في أفغانستان، واستنادا للدراسة نفسها، نجد أن عدد الضحايا الأمريكيين بلغ 1666، وفي المقابل نجد أنه خلال النصف الأول من عام 2010 قد بلغ عدد الضحايا المدنيين 1271 قتيل، هذا حسب تقرير للأمم المتحدة نشر في 10 / 08 / 2010. مما يعني أن ضحايا العشر سنوات تقريبا من الجانب الأمريكي، لم يصل ما سقط خلال عام ونصف فقط من الجانب الأفغاني (أمريكيين مقابل 3 أفغان تقريبا)، لو أضفنا لها حوالي 870 سقطوا في 2009، بناء على أن الزيادة 31 بالمئة حسب التقرير المشار إليه، حيث أن عدد الضحايا في 18 شهرا تجاوز 2140 ضحية.
ولو نذهب إلى كل الحروب التي حدثت عبر التاريخ، أو حتى النزاعات المحلية والأهلية، أو حتى في مجال مكافحة الشغب، لوجدنا أن ضحايا العسكر يقابلها دوما العشرات في أقل الأحوال من الجانب المدني، ولم يحدث مطلقا أن سقط العسكريون المسلحون ولم يخدش وجه شخص واحد من المدنيين العزّل.
قد يقول البعض إن الأمر يختلف مما يحدث في الصحراء الغربية، وإن كنا نقرّ بوجود بعض الاختلاف بين البيئتين، حيث أن اتفاق وقف الحرب ساري المفعول منذ سنوات على الأقل من جانب جبهة البوليساريو، أما من الجانب المغربي فقد اعترف وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري بأن بلاده في حالة حرب، وذلك في حوار مع صحيفة "ال باييس" الإسبانية نشرته يوم السبت 27 / 11 / 2010.
وأيضا أن الصحراويين يناضلون سلميا من أجل إسماع صوتهم وتقرير مصيرهم وفق الشرعية الدولية، هذا إذا أضفنا أن الشعبين (الصحراوي والمغربي) تجمعهما أواصر الأخوة في الدين واللغة والعرق والجوار، عكس ما يجري في العراق وأفغانستان. إلا أنه برغم ذلك، وجب أن نؤكد على أمر هام، أن الجانب المغربي يتعامل مع الصحراويين بمنطق الحرب السرية الخفية، التي تسري في الظل وغير معلنة للعالم، يحدث ذلك في ظل تعتيم إعلامي وحقوقي رهيب، ومنع وسائل الإعلام المستقلة ونشطاء حقوق الإنسان من الوصول إلى هذه المناطق التي يحدث فيها ما يندى له الجبين. وما قصة الحكم الذاتي والجهوية الموسعة وتنمية ما يسمى "الأقاليم الجنوبية" إلا خداع انكشف زيفه مع مرور الأيام، وفضحته أكثر جريمة العيون التي ستبقى وصمة عار في جبين المجتمع الدولي.
على هامش مجزرة العيون
بحكم زيارتي إلى الصحراء الغربية مرتين خلال العام الجاري، لمست حقدا رهيبا يكنّه المغاربة للصحراويين لا يمكن تخيّله، بل يتمنّون أن يدفنوهم في رمال الصحراء ويرتاحوا منهم للأبد!!
حتى أولئك الذين يسمونهم "العائدين لأرض الوطن" و"الفارين من جحيم تندوف" في إطار شعار "الوطن غفور رحيم"، ينظرون إليهم بعيون الريبة والشك والكراهية والعدوانية، لأنهم مصابون بداء "الانفصال" الذي لا شفاء منه أبدا حسب الاصطلاحات المغربية، فضلا عن أن الجهات الأمنية السرية تصوّرهم على أنهم مجرد مرحلة عابرة يُراد منها تفكيك البنية الداخلية لجبهة البوليساريو، وبعدها يتخلّصون منهم وفق رؤية أمنية بحتة طبخت فصولها في دهاليز سرية.
فترى كيف يكون الحال عند العسكريين ممن يرون أنفسهم مستهدفين في أرواحهم وأنهم يدافعون عن "وحدتهم الترابية" ويواجهون عدوّا مدعوما من الخارج حسب مقاربات مخزنية متعارف عليها؟
لقد حدثني الضابط المغربي الفار، عبد الاله عيسو، الذي عمل ضابطا في الصحراء الغربية لسنوات، كما حدثني غيره من العسكريين السابقين، من أن تكوينهم البسيكولوجي أثناء دراساتهم العسكرية، كله لا يتعدى زرع الأحقاد والكراهية لكل ما هو صحراوي، سواء كان مدنيا أو عسكريا، ويتعرضون لغسيل مخ ممنهج عبر مواد يتلقونها من مثل "الأمن العسكري"، "التاريخ العسكري"... وهذا من أجل زرع وتنمية العنف تجاههم، جرى ذلك خلال فترة الحرب مع جبهة البوليساريو، ولا يزال يجري حتى الآن تحسّبا لنشوب حروب أخرى.
يتبع
نوافذ
بحكم زيارتي إلى الصحراء الغربية مرتين خلال العام الجاري، لمست حقدا رهيبا يكنّه المغاربة للصحراويين لا يمكن تخيّله، بل يتمنّون أن يدفنوهم في رمال الصحراء ويرتاحوا منهم للأبد.
من يصدق أن الذين قتلوا الطفل الكرحي بالأمس وقبله الكثيرون بمجرد شبهة أو كذبة سمجة، لا يقتلون أطفالا آخرين ممن استماتوا في الدفاع عن خيماتهم وأخواتهم وأمهاتهم؟
الجانب المغربي يتعامل مع الصحراويين بمنطق الحرب السرية الخفية، التي تسري في الظل وغير معلنة للعالم، يحدث ذلك في ظل تعتيم إعلامي وحقوقي رهيب
الاستاذ : أنور مالك