نـــساء خــــالـدات : خديجة بنت خويلد - سيدة نساء قريش-
موعد مع القدر
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وأحرصهن على التزام جانب الأمانة، والاحتفاظ بسياج العفة والكرامة .. كانت كثيرة المال وافرة الثراء، لها تجارة واسعة ترسلها إلى أسواق العرب مع ما ترسله قريش من قوافلها، وكانت قافلتها تعدل أحيانا قوافل قريش بأجمعها ... كانت على موعد مع القدر حينما اختارت محمدا ليخرج في تجارتها. فـأحسنـت معاملته وأجزلت أجره، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حاله معها فقال: (ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة)..وتأنس خديجة إلى صدق رسول الله وأمانته فتطلب منه أن يخرج بتجارتها إلى الشام وترسل معه غلامها ميسرة.
كانت فرحة خديجة كبيرة بتجارتها التي ربحت ضعف ما كانت تربح، ولكن فرحتها بمحمد وحديث ميسرة عن أمانته واستقامته وعفته كانت أكبر... وأدركت خديجة بحسها المرهف، وعقلها الراجح، أن محمدا صنف آخر من الرجال، وأنه ليس مثل أولئك الذين تقدموا للزواج منها، يطلبونها لشرفها أو لمالها أو لجمالها..وإذا كانت قد رفضت في كل مرة زعماء قريش الواحد تلو الآخر، الذين تقدموا إليها.. فإنها تحس في نفسها رغبة ملحة أن تتقدم هي لمحمد وتطلب منه أن يتزوجها. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأعراف القوم تأبى؟ .. ذهبت إلى إحدى صديقاتها نفيسة بنت منيه تبثها ما في نفسها، وتطلب مشورتها.. فأشارت عليها أن تقوم هي بهذا الدور، فذهبت إلى محمد تتعرف رأيه وتستطلع خبره، فقالت نفيسة: ما يمنعك أن تتزوج يا محمد ؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت نفيسة: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف، ألا تجيب؟ فسأل محمد: ومن هي؟ قالت نفيسة : خديجة..ومن الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفيسة رسولة خديجة، إلى الحوار المباشر معها.. قال رسول الله: من لي بك وأنت أيم قريش، وأنا يتيم قريش؟ قالت: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك...وهكذا ترفض خديجة كبار شخصيات قريش.. وتُقبل على محمد.. ولم لا.. وهو كما وصفه عمه أبو طالب عندما جاء لخطبتها قال:أما ابن أخي محمد فلا يوزن به رجل إلا رجحه شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وان كان في المال قلا، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة.. وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك). وهكذا زفت خديجة بنت خويلد بنت الأربعين صاحبة المال والسؤدد، التي يلقبها قومها بالطاهرة، إلى محمد صلى الله عليه وسلم سيد شباب قريش ابن الخامسة والعشرين والذي يلقبه قومه بالأمين.
نعمت الزوجة الصالحة للزوج الصالح : وعاش الزوجان في أمن وأمان، وحب ووئام، فولدت له القاسم ثم زينب ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم ولدت له في الإسلام عبد الله فسمي الطيب والطاهر.
وإذا كانت العناية الإلهية قد هيأت محمدا لدور كبير يقوم به في واقع الحياة البشرية، فيحولها من الظلمات إلى النور.. فإن العناية الإلهية ذاتها، هي التي جاءت بخديجة الكبرى لتكون الزوجة العظيمة، التي ترعى الزوج: بحبها وحنانها وقلبها وروحها. إن من يدرس سيرة هذه الأم العظيمة، لا بد أن يدرك، أنها جاءت على قدر، لتقوم إلى جانب النبي بأعظم وأنبل دور تقوم به امرأة.
أمام الموقف الكبير
كان محمد صلى الله عليه وسلم، بعيدا عن ترهات قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور يتحنث ويتعبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفيما وراءها من قدرة مبدعة... وكانت خديجة تؤمّن له الهدوء الشامل، والاستقرار الكامل، تأخذ له الطعام إلى الغار إذا أبطأ عنها.. وتكلأه بحبها إذا حضر إليها، كانت مقتنعة بعمله.. مدركة بفطرتها السليمة أن لزوجها شأنا عظيما.. كانت خديجة له ردءا وعونا وحصنا يعتصم به من عوادي الدهر، يستلهم منها الأمن عند الخوف، ويستمد منها القوة عند الضعف، ويجد فيها السكينة عند القلق والاضطراب [3].
وعلى رأس الأربعين عاما، جاء الحق محمدا وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فضمني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغتني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم" [4] ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، لقد خشيت على نفسي يا خديجة.
وتواجه خديجة العظيمة الموقف الكبير بمفردها، فلا تجزع ولا ترتبك ولا تتردد.. بل تخاطب الزوج الخائف وتقول: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
هل هناك شجاعة أعظم، أو حكمة أبلغ، أو موقف أكرم من فعل خديجة هذا وموقفها..؟ ولا تكتفي بذلك التطمين الأوليّ لتثبيت القلب الخائف.. فتأخذ بيده إلى ابن عمها ورقة بن نوفل.. وكان شيخا كبيرا تنصر في الجاهلية.. فتقول له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: (هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا) [5].
ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم حجم المسؤولية التي ألقتها العناية الإلهية على كاهله.. وانه سيؤذى ويُخرج ويُقاتل.. وأدركت معه خديجة مقدار الواجب الكبير الذي تتحمـلـه للوقوف إلى جانب الزوج النبي... كانت معه بكل إحساسها ونبلها وحبها وعطفها. كانت حزينة معه يوم فتر الوحي.. وينشرح فؤادها وهي ترى زوجها مستبشرا بعودته. علمها رسول الله كيف تتوضأ وتصلي.. ولقد شهدتهما أيام مكة ولياليها يصليان لله ويحمدانه ويشكرانه على ما
أولاهما من نعم.
المجتمع المسلم الأول
كان بيت الرسول الذي يضم بالإضافة إلى زوجه خديجة بناتها وعلي بن أبي طالب وزيـد
بن حارثة هو المجتمع المسلم الأول الذي آمن بالدعوة الكريمة التي نزل بها الأمين جبريل
على قلب الأمين محمد صلى الله عليـه وسلم. وإذا كانت خديجة في جاهليتها مشغولـة
في تجارتها وتنميـة أموالها والمحافظة على مكانتها.. فهي اليوم مشغولة بالدعوة وكيف
تكسب لها أنصارا.. مشغولة بالنبـي وكيـف تقف إلى جانبه تؤازره وتعاونه وتكلؤه.
عندما أسلم أبو بكر رضي الله عنه، وانضـم إلى موكب المؤمنين، وسمعت مقالته
وهو في بيتها يعلن تصديقه لمحمد صلى الله عليه وسلم دون توان أو تردد لم تـملك
نفسها إلا وهي تهتف بأبي بكر مهنئة له وتقول: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة. جميع المؤمنين أبناؤها وهي أم المؤمنين.
في طريق الدعوة
وتـمر الدعوة بمراحلها الصعبة، ويقف أهل مكة موقف العداء الشديد من محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، نالوه بالإساءة ووالوه بالسخرية ورموه بكل ما يكره من بذيء القول وفاحش الكلام. نعتوه بالجنون والسفه، واتهموه بالكهانة والسحر. في كل يوم كانت عقول أهل مكة تتفتق عن مزيد من وسائل المكر والخبث والحرب ضد النبي وأصحابه ، وكان رسول صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة والنفر القليل من المؤمنين معه يقابلون كل ذلك بإيمان أرسخ من جبال مكة، وبعزيمة أثبت من الدنيا وما فيها.. يقابلون الفظاظة بالمرحمة.. والطيش بالحلم.. والإساءة بالإحسان.. كم عانت السيدة خديجة من جوار أبي لهب الذي تزعّم هو وزوجه أم جميل نادي قريش في الإساءة إلى النبي.. فكانت تكتفي بإزالة ما كانت تلقيه أم جميل من أقذار وأشواك تضعها في طريق النبي وأمام داره.. وسارت خديجة مع زوجها العظيم في طريق الدعوة.. والآلام.. صابرة محتسبة.. ردوا عليها بناتها رقية وأم كلثوم وكانتا عُقد عليهما لعتبة وعتيبة ابني أبي لهب..هاجرت ابنتها رقية مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أوائل المهاجرين إلى أرض الحبشة. كانت تحس بالألم يعتصر فؤادها، على غربة بناتها، وتشتت شمل أسرتها، ولكنها الصابرة المحتسبة.. وكيف يمكن أن تكون أما للمؤمنين ومثلا أعلى للمؤمنات.. إن لم تعط من نفسها القدوة والمثل في التضحية والفداء...؟
الحصار في شعب بني هاشم
(رأت قريش أن كل ما استعملته من وسائل مع النبي وصحبه، من المسالمة والإغراء، ومن السخرية والاستهزاء، ومن الإرهاب والتعذيب، ومن الدعاية والتهويش لم يجدها نفعا، ولم يصرف الناس عن دعوة الإسلام، ولم يحل بينها وبين الظهور والانتشار. ورأت أن دخول العناصر القوية فيها قد زادها ظهورا وانتشارا، فقد عز المسلمون منذ أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، واستطاعوا أن يستعلنوا بصلاتهم بعد أن كانوا يسرون بها، وأن يصلّوا عيانا في حرم الكعبة بعد أن كانوا يستخفون في شعاب الجبال، واستطاعوا كذلك أن يجهروا بالقرآن على مسمع من قريش بعد أن كانوا يتخافتون به.. وحارت قريش في أمرها. فلجأت إلى سلاح آخر غير سلاح الإرهاب والتخويف، هو سلاح المقاطعة) فاجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، وعلقوها في جوف الكعبة. فلما فعلـت ذلـك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش، فظاهرهم ، وتركت خديجة دارها، وانتقلت مع محمد إلى شعب أبي طالب، تقاسي ما يقاسي زوجها وما يقاسي أتباعه معه. ولم تتوان رغم تجاوزها الستين في أن تقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم بما كانت تقوم له من قبل. فظلت هي هي المواسية المشجعة المؤازرة وزير الصدق الذي عاون محمدا، وأخذ بيده منذ بدء دعوته [8] ، ليس هذا فقط.. بل وكانت تدبر أمر ايصال بعض الطعام إلى الشعب المحاصر، وتشرف بنفسها على توزيعه على المحاصرين.. ثلاث سنوات طوال، مكثها المسلمون محاصرين في الشعب، حتى اشتد بهم البلاء وبلغ منهم الجهد، فأكلوا ورق الشجر وسُمع صراخ أطفالهم من بعيد.. وإذا استطاع الحصار أن ينال من الأجساد المتعبة، إلا إنه كان يصفي المعدن الكريم، فيزداد قوة وصلابة وتـمسكا بالدعوة العظيمة. وما أن انقضت أيام الحصار وأحس النبي صلى الله عليه وسلم أن بإمكانه استئناف دعوته حتى فقد عمه أبا طالب الحصن الحصين الذي كان يحوطه بكل أنواع الرعاية والحماية.. ولم تلبث خديجة أن مرضت، واشتد بها المرض.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبها يمرّضها ويقوم على خدمتها ويقول لها: بالكره مني ما يجري عليك يا خديجة.. ويظل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب خديجة، يخفف عنها ويذكّرها بما وعدها الله به في الجنة من نعيم وما أعده لها من قصر من قصب لا نصب فيه ولا صخب حتى فاضت روحها بين يديه صلى الله عليه وسلم. إذا مررتم بالحجون في مكة فألقوا التحية على أمنا الكبرى.. على خديجة، المرأة العظيمة.. عظم الدعوة وعظم الرسالة ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب..).
مثلهن الأعلى
لقد تفردت خديجة بهذا الفضل.. ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، دائم الذكر لها والحنين إليها، يترحم عليها، ويتحدث بأيامها، ويبر صواحبها، ويتهلل لمن يراه من أهلها ، روى مسلم عن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي، إلا على خديجة، وإني لم أدركها. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذبح الشاة.. فيقول: (أرسلوا بها إلى صدائق خديجة.. قالت فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رزقت حبها).. ومرة ، قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أبدلك الله خيرا منها. قال: ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).
هذه هي خديجة الكبرى .. الداعية الأولى.. والمثل الأعلى لبناتها المسلمات السائرات على نهجها في موكب الدعوة. التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد، وأشار الراوي إلي السماء والأرض) وإذا كان إلى جانب كل رجل عظيم امرأة يعتمد عليها في جهاده، وفي الوصول إلى أهدافه، فقد كانت خديجة تلك السيدة العظيمة التي ناصرت النبوة، وعاونت على رفع راية الإسلام، وجاهدت في سبيل الدعوة الإسلامية. لم تخذل زوجها يوما من الأيام، بل كانت الأولى في كل شيء، في سماحة الخلق، وجمال الطلعة، ووفاء الزوجة، وشرف النسب وكرم المحتد والإيمان الثابت والنفس المخلصة والقلب السليم لقد كانت الحضارة الإسلامية التي أضاءت الدنيا وارتقت بالإنسان من وهدة التخلف إلى أرقى مستويات الرقي، ملفّعة بصبر خديجة البارة بأمتها، وبرسالة زوجها، لقد كانت حصيلة حبّ وأمانة، وتضحية ورصانة، وجلد وصبر، وكد وعمل ودفع للباطل وتأييد للحق.
المصدر :أمهات المؤمنين في مدرسة النبوةمصطفى الطحان
موعد مع القدر
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وأحرصهن على التزام جانب الأمانة، والاحتفاظ بسياج العفة والكرامة .. كانت كثيرة المال وافرة الثراء، لها تجارة واسعة ترسلها إلى أسواق العرب مع ما ترسله قريش من قوافلها، وكانت قافلتها تعدل أحيانا قوافل قريش بأجمعها ... كانت على موعد مع القدر حينما اختارت محمدا ليخرج في تجارتها. فـأحسنـت معاملته وأجزلت أجره، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حاله معها فقال: (ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة)..وتأنس خديجة إلى صدق رسول الله وأمانته فتطلب منه أن يخرج بتجارتها إلى الشام وترسل معه غلامها ميسرة.
كانت فرحة خديجة كبيرة بتجارتها التي ربحت ضعف ما كانت تربح، ولكن فرحتها بمحمد وحديث ميسرة عن أمانته واستقامته وعفته كانت أكبر... وأدركت خديجة بحسها المرهف، وعقلها الراجح، أن محمدا صنف آخر من الرجال، وأنه ليس مثل أولئك الذين تقدموا للزواج منها، يطلبونها لشرفها أو لمالها أو لجمالها..وإذا كانت قد رفضت في كل مرة زعماء قريش الواحد تلو الآخر، الذين تقدموا إليها.. فإنها تحس في نفسها رغبة ملحة أن تتقدم هي لمحمد وتطلب منه أن يتزوجها. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأعراف القوم تأبى؟ .. ذهبت إلى إحدى صديقاتها نفيسة بنت منيه تبثها ما في نفسها، وتطلب مشورتها.. فأشارت عليها أن تقوم هي بهذا الدور، فذهبت إلى محمد تتعرف رأيه وتستطلع خبره، فقالت نفيسة: ما يمنعك أن تتزوج يا محمد ؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت نفيسة: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف، ألا تجيب؟ فسأل محمد: ومن هي؟ قالت نفيسة : خديجة..ومن الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفيسة رسولة خديجة، إلى الحوار المباشر معها.. قال رسول الله: من لي بك وأنت أيم قريش، وأنا يتيم قريش؟ قالت: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك...وهكذا ترفض خديجة كبار شخصيات قريش.. وتُقبل على محمد.. ولم لا.. وهو كما وصفه عمه أبو طالب عندما جاء لخطبتها قال:أما ابن أخي محمد فلا يوزن به رجل إلا رجحه شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وان كان في المال قلا، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة.. وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك). وهكذا زفت خديجة بنت خويلد بنت الأربعين صاحبة المال والسؤدد، التي يلقبها قومها بالطاهرة، إلى محمد صلى الله عليه وسلم سيد شباب قريش ابن الخامسة والعشرين والذي يلقبه قومه بالأمين.
نعمت الزوجة الصالحة للزوج الصالح : وعاش الزوجان في أمن وأمان، وحب ووئام، فولدت له القاسم ثم زينب ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم ولدت له في الإسلام عبد الله فسمي الطيب والطاهر.
وإذا كانت العناية الإلهية قد هيأت محمدا لدور كبير يقوم به في واقع الحياة البشرية، فيحولها من الظلمات إلى النور.. فإن العناية الإلهية ذاتها، هي التي جاءت بخديجة الكبرى لتكون الزوجة العظيمة، التي ترعى الزوج: بحبها وحنانها وقلبها وروحها. إن من يدرس سيرة هذه الأم العظيمة، لا بد أن يدرك، أنها جاءت على قدر، لتقوم إلى جانب النبي بأعظم وأنبل دور تقوم به امرأة.
أمام الموقف الكبير
كان محمد صلى الله عليه وسلم، بعيدا عن ترهات قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور يتحنث ويتعبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفيما وراءها من قدرة مبدعة... وكانت خديجة تؤمّن له الهدوء الشامل، والاستقرار الكامل، تأخذ له الطعام إلى الغار إذا أبطأ عنها.. وتكلأه بحبها إذا حضر إليها، كانت مقتنعة بعمله.. مدركة بفطرتها السليمة أن لزوجها شأنا عظيما.. كانت خديجة له ردءا وعونا وحصنا يعتصم به من عوادي الدهر، يستلهم منها الأمن عند الخوف، ويستمد منها القوة عند الضعف، ويجد فيها السكينة عند القلق والاضطراب [3].
وعلى رأس الأربعين عاما، جاء الحق محمدا وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فضمني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغتني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم" [4] ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، لقد خشيت على نفسي يا خديجة.
وتواجه خديجة العظيمة الموقف الكبير بمفردها، فلا تجزع ولا ترتبك ولا تتردد.. بل تخاطب الزوج الخائف وتقول: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
هل هناك شجاعة أعظم، أو حكمة أبلغ، أو موقف أكرم من فعل خديجة هذا وموقفها..؟ ولا تكتفي بذلك التطمين الأوليّ لتثبيت القلب الخائف.. فتأخذ بيده إلى ابن عمها ورقة بن نوفل.. وكان شيخا كبيرا تنصر في الجاهلية.. فتقول له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: (هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا) [5].
ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم حجم المسؤولية التي ألقتها العناية الإلهية على كاهله.. وانه سيؤذى ويُخرج ويُقاتل.. وأدركت معه خديجة مقدار الواجب الكبير الذي تتحمـلـه للوقوف إلى جانب الزوج النبي... كانت معه بكل إحساسها ونبلها وحبها وعطفها. كانت حزينة معه يوم فتر الوحي.. وينشرح فؤادها وهي ترى زوجها مستبشرا بعودته. علمها رسول الله كيف تتوضأ وتصلي.. ولقد شهدتهما أيام مكة ولياليها يصليان لله ويحمدانه ويشكرانه على ما
أولاهما من نعم.
المجتمع المسلم الأول
كان بيت الرسول الذي يضم بالإضافة إلى زوجه خديجة بناتها وعلي بن أبي طالب وزيـد
بن حارثة هو المجتمع المسلم الأول الذي آمن بالدعوة الكريمة التي نزل بها الأمين جبريل
على قلب الأمين محمد صلى الله عليـه وسلم. وإذا كانت خديجة في جاهليتها مشغولـة
في تجارتها وتنميـة أموالها والمحافظة على مكانتها.. فهي اليوم مشغولة بالدعوة وكيف
تكسب لها أنصارا.. مشغولة بالنبـي وكيـف تقف إلى جانبه تؤازره وتعاونه وتكلؤه.
عندما أسلم أبو بكر رضي الله عنه، وانضـم إلى موكب المؤمنين، وسمعت مقالته
وهو في بيتها يعلن تصديقه لمحمد صلى الله عليه وسلم دون توان أو تردد لم تـملك
نفسها إلا وهي تهتف بأبي بكر مهنئة له وتقول: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة. جميع المؤمنين أبناؤها وهي أم المؤمنين.
في طريق الدعوة
وتـمر الدعوة بمراحلها الصعبة، ويقف أهل مكة موقف العداء الشديد من محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، نالوه بالإساءة ووالوه بالسخرية ورموه بكل ما يكره من بذيء القول وفاحش الكلام. نعتوه بالجنون والسفه، واتهموه بالكهانة والسحر. في كل يوم كانت عقول أهل مكة تتفتق عن مزيد من وسائل المكر والخبث والحرب ضد النبي وأصحابه ، وكان رسول صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة والنفر القليل من المؤمنين معه يقابلون كل ذلك بإيمان أرسخ من جبال مكة، وبعزيمة أثبت من الدنيا وما فيها.. يقابلون الفظاظة بالمرحمة.. والطيش بالحلم.. والإساءة بالإحسان.. كم عانت السيدة خديجة من جوار أبي لهب الذي تزعّم هو وزوجه أم جميل نادي قريش في الإساءة إلى النبي.. فكانت تكتفي بإزالة ما كانت تلقيه أم جميل من أقذار وأشواك تضعها في طريق النبي وأمام داره.. وسارت خديجة مع زوجها العظيم في طريق الدعوة.. والآلام.. صابرة محتسبة.. ردوا عليها بناتها رقية وأم كلثوم وكانتا عُقد عليهما لعتبة وعتيبة ابني أبي لهب..هاجرت ابنتها رقية مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أوائل المهاجرين إلى أرض الحبشة. كانت تحس بالألم يعتصر فؤادها، على غربة بناتها، وتشتت شمل أسرتها، ولكنها الصابرة المحتسبة.. وكيف يمكن أن تكون أما للمؤمنين ومثلا أعلى للمؤمنات.. إن لم تعط من نفسها القدوة والمثل في التضحية والفداء...؟
الحصار في شعب بني هاشم
(رأت قريش أن كل ما استعملته من وسائل مع النبي وصحبه، من المسالمة والإغراء، ومن السخرية والاستهزاء، ومن الإرهاب والتعذيب، ومن الدعاية والتهويش لم يجدها نفعا، ولم يصرف الناس عن دعوة الإسلام، ولم يحل بينها وبين الظهور والانتشار. ورأت أن دخول العناصر القوية فيها قد زادها ظهورا وانتشارا، فقد عز المسلمون منذ أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، واستطاعوا أن يستعلنوا بصلاتهم بعد أن كانوا يسرون بها، وأن يصلّوا عيانا في حرم الكعبة بعد أن كانوا يستخفون في شعاب الجبال، واستطاعوا كذلك أن يجهروا بالقرآن على مسمع من قريش بعد أن كانوا يتخافتون به.. وحارت قريش في أمرها. فلجأت إلى سلاح آخر غير سلاح الإرهاب والتخويف، هو سلاح المقاطعة) فاجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، وعلقوها في جوف الكعبة. فلما فعلـت ذلـك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش، فظاهرهم ، وتركت خديجة دارها، وانتقلت مع محمد إلى شعب أبي طالب، تقاسي ما يقاسي زوجها وما يقاسي أتباعه معه. ولم تتوان رغم تجاوزها الستين في أن تقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم بما كانت تقوم له من قبل. فظلت هي هي المواسية المشجعة المؤازرة وزير الصدق الذي عاون محمدا، وأخذ بيده منذ بدء دعوته [8] ، ليس هذا فقط.. بل وكانت تدبر أمر ايصال بعض الطعام إلى الشعب المحاصر، وتشرف بنفسها على توزيعه على المحاصرين.. ثلاث سنوات طوال، مكثها المسلمون محاصرين في الشعب، حتى اشتد بهم البلاء وبلغ منهم الجهد، فأكلوا ورق الشجر وسُمع صراخ أطفالهم من بعيد.. وإذا استطاع الحصار أن ينال من الأجساد المتعبة، إلا إنه كان يصفي المعدن الكريم، فيزداد قوة وصلابة وتـمسكا بالدعوة العظيمة. وما أن انقضت أيام الحصار وأحس النبي صلى الله عليه وسلم أن بإمكانه استئناف دعوته حتى فقد عمه أبا طالب الحصن الحصين الذي كان يحوطه بكل أنواع الرعاية والحماية.. ولم تلبث خديجة أن مرضت، واشتد بها المرض.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبها يمرّضها ويقوم على خدمتها ويقول لها: بالكره مني ما يجري عليك يا خديجة.. ويظل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب خديجة، يخفف عنها ويذكّرها بما وعدها الله به في الجنة من نعيم وما أعده لها من قصر من قصب لا نصب فيه ولا صخب حتى فاضت روحها بين يديه صلى الله عليه وسلم. إذا مررتم بالحجون في مكة فألقوا التحية على أمنا الكبرى.. على خديجة، المرأة العظيمة.. عظم الدعوة وعظم الرسالة ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب..).
مثلهن الأعلى
لقد تفردت خديجة بهذا الفضل.. ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، دائم الذكر لها والحنين إليها، يترحم عليها، ويتحدث بأيامها، ويبر صواحبها، ويتهلل لمن يراه من أهلها ، روى مسلم عن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي، إلا على خديجة، وإني لم أدركها. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذبح الشاة.. فيقول: (أرسلوا بها إلى صدائق خديجة.. قالت فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رزقت حبها).. ومرة ، قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أبدلك الله خيرا منها. قال: ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).
هذه هي خديجة الكبرى .. الداعية الأولى.. والمثل الأعلى لبناتها المسلمات السائرات على نهجها في موكب الدعوة. التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد، وأشار الراوي إلي السماء والأرض) وإذا كان إلى جانب كل رجل عظيم امرأة يعتمد عليها في جهاده، وفي الوصول إلى أهدافه، فقد كانت خديجة تلك السيدة العظيمة التي ناصرت النبوة، وعاونت على رفع راية الإسلام، وجاهدت في سبيل الدعوة الإسلامية. لم تخذل زوجها يوما من الأيام، بل كانت الأولى في كل شيء، في سماحة الخلق، وجمال الطلعة، ووفاء الزوجة، وشرف النسب وكرم المحتد والإيمان الثابت والنفس المخلصة والقلب السليم لقد كانت الحضارة الإسلامية التي أضاءت الدنيا وارتقت بالإنسان من وهدة التخلف إلى أرقى مستويات الرقي، ملفّعة بصبر خديجة البارة بأمتها، وبرسالة زوجها، لقد كانت حصيلة حبّ وأمانة، وتضحية ورصانة، وجلد وصبر، وكد وعمل ودفع للباطل وتأييد للحق.
المصدر :أمهات المؤمنين في مدرسة النبوةمصطفى الطحان