المعارف النظرية والعلمية والتطبيقية في المجال التربوي- غاستون ميالاريه
ترجمة: نور الدين البودلالي
خلال النصف الثاني من هذا القرن العشرين، تغيرت عقليات المدرسين والتلاميذ والآباء، وتغيرت آمال المجتمع وعلاقات المدرسة بعالم الشغل. ولم يعد بمقدور المدرسة أن تشتغل بنفس طريقة اشتغالها عند بداية القرن: لذلك أصبح من الضروري ابتكار مرامي جديدة، وأنماط فعل جديدة، وطرق جديدة في التربية دون أن يعني هذا إقصاء منهجيا للأشكال القديمة القابلة للاستعمال... ولا يمكننا اليوم، بأي حال من الأحوال، أن ننكر أو نتجاهل ما يقدمه كل من العلم المعاصر والتطبيقات التربوية والبحث العلمي في المجال التربوي من إسهامات.
مقدمة: الوضعية الخاصة للتربية :
1 - للــ"معارف" في مجال (مجالات) التربية وضعية جد خاصة. إننا إزاء وضعيات لها، على الأقل، أربعة ينابيع معرفية:
المنبع الأول له صلة بشكل التفكير الفلسفي والتاريخي الخاص بالمرامي والأهداف التربوية. منبع ضروري وذو أهمية قصوى، ولهذا يعرف حاليا تجددا ملفتا للنظر ببعض الدول الناطقة باللغة الفرنسية.
بينما يتصل المنبع الثاني بالوضعية الحالية التي تولدت عن وجود مجموع وسائل الاتصال (صحف، مذياع، تلفاز، بنوك المعلومات وغيرها…) وعن وجود المنظمات العالمية الكبرى (اليونسكو على الخصوص)، التي قامت بتجميع ومراكمة عدد هائل من المعلومات المرتبطة بمجموع القضايا التربوية المطروحة على المستوى العالمي. وتشكل إمكانيات الطبع والنشر الحديثة عنصرا جديدا في بناء هذه المعرفة الوثائقية، التي سنعود إليها بالتحليل خلال هذه الدراسة.
أما المعرفة التي تتأسس انطلاقا من الـ"تجربة اليومية" للمربي أو، باصطلاح أكثر علمية (وأكثر حذلقة)، المعرفة ذات طابع النهج العلمي (praxéologique) فتشكل المنبع الثالث المتميز بغناه. لكن، وللأسف، غالبا ما تضيع "تجربة" المدرسين هذه دون الاستفادة منها، لكونها تظل مرتبطة بالشخص دون أن يطلع عليها أحد. وقد عملت الدول الشرقية على تصحيح هذه الوضعية عن طريق خلق الـ"أكاديميات البيداغوجية"، التي من بين مهامها تجميع، وبناء ونشر المعارف المتأتية عن التطبيق العملي للمدرسين.
أخيرا، يتكون المنبع الرابع من معرفة ذات نمط علمي، نتجت عن البحوث الدارسة للوضعيات التربوية وعما قدمته الدراسات من مساهمات علمية في التاريخ، والبيولوجيا، وعلم النفس، والاقتصاد، وعلم الاجتماع والسياسة… وهي مجالات تقدم فرصة إغناء تفسير وشرح الوضعيات التربوية. إن ظهور وتطور البحث العلمي في التربية (أو حول التربية) يشكلان واقعة جديدة في تاريخ التربية، ويطرحان، في صورة جديدة، مسألة العلاقات الكائنة بين كل من المعارف النظرية، والمعارف العلمية والمعارف الخاصة بالفعل، وكذلك مسألة مساهمة كل واحدة منها.
غايتنا إذن أن نكتفي بفحص الخصائص المميزة للأنماط المعرفية الثلاثة الآتية: معرفة النهج العلمي praxéologique، المعرفة العلمية والمعرفة النظرية، قصد دراسة العلاقات التي توجد -أو من المفروض أن توجد- بينها. ليس الغرض إذن جعل هذه المعارف متقابلة ولا ترتيبها حسب أهميتها، وإنما فقط تحليل الوقائع الحالية. سيؤدي بنا هذا، بطبيعة الحال، إلى دراسة حجم استفادة كل نمط معرفي من الآخر، والنظر فيما ستكون عليه التطورات المرجوة على مستوى التطبيق التربوي اليومي وعلى مستوى تكوين المدرسين.
2 - علينا أن نشير أيضا إلى مسألة تعدد معاني كلمة "التربية" تعددا يحيلنا خلال نقاشنا، إلى ميادين و/أو إلى حقائق مختلفة لا تملك نفس النظام. وهكذا أمكننا التمييز بين:
-التربية-المؤسسة،
-التربية-الفعل،التربية-العملية،
-التربية-المحتوى،
-التربية-المنتوج، التربية-النتائج.
من المؤكد أن العلاقات المتواجدة بين المعارف النظرية، والمعارف العلمية والمعارف التطبيقية، بالنسبة لكل ميدان من هذه الميادين، ليست تماما من نفس الطبيعة. وسنقتصر خلال هذه الدراسة على جانب "التربية-الفعل" وحده.
3 - وقبل أن نتقدم أكثر في دراستنا، نشير إلى خصوصية تميز ميدان التربية، حيث لا يمكن أبدا عدم الأخذ بعين الاعتبار ما يسمى بـالـ"مرامي" التربوية. تنتج عن هذه الوضعية علاقات متميزة تجمع بين الـ"فعل" (مناهج، تقنيات)، والـ"نظرية" والـ"بحث العلمي"، ما دامت مرامي نفس الوضعية التربوية قادرة على أن تتنوع بشكل كبير وأن تؤدي إلى مناهج وتقنيات مختلفة.
وعليه فسنحاول خلال هذه الدراسة الإجابة على الأسئلة التالية:
-ما هي مستويات التطبيق، والتربوي منه على الخصوص؟
-كيف تتكون الـ"معرفة التطبيقية" لدى المربي؟
-ما هي مميزات الـ"معرفة العملية" وكيف تنشأ؟
-ما المقصود بالـ"معرفة النظرية" في المجال التربوي؟
-ما هي العلاقات الكائنة بين كل هذه الأشكال المعرفية؟
المعرفة التطبيقية لدى المربي:
1 - مستويات التطبيق:
كلمة "تطبيق" كلمة جد فضفاضة، تستند إلى أشكال ومستويات جد متنوعة من النشاط الإنساني، مما يستدعي تدقيقها وتمحيص ما نسميه بـ"مستويات" التطبيق.
المستوى الأول الذي سندعوه المستوى الـ" إندفاعي" (إحالة إلى المرحلة الـ"إندفاعية" لفالون)، يكون فيه الفعل استجابة فورية إزاء المؤثرات الداخلية أو الخارجية عن المحيط. فعندما لا يستطيع المدرس التحكم فيما يحدث داخل القسم، فإنه "يقوم بأي تصرف" في محاولة منه للتغلب على الوضعيات المواجهة. في حالات قصوى كهذه، يعجز الفرد على تعليل سبب تصرفه أو استجابته بهذه الطريقة؛ فالاستجابة الـ"إندفاعية" نادرا ما تناسب المثير أو تؤدي إلى حدوث خبرة تعلمية.
في المستوى الثاني يكون التطبيق استجابة تلائم إلى حد ما الواقع الخارجي، ومبنيا إلى حد ما على ما سبق تعلمه، إلا أنه يظل منغلقا على نفسه حتى وإن كان فعالا في استجابته لمتطلبات الوضعية. فالفرد ينشغل بالوضعية وبالحاجة إلى الاستجابة إليها، فيشوب سلوكه نوع من النمطية، والتكرارية. لنا مثال عن الحالة القصوى والشبه مرضية في شخصية شارلي شابلن وقد كلف، في سلسلة عمل بالمعمل، بحزق boulonner الأجزاء التي تمر أمامه (انظر فيلم "الأزمنة الحديثة"). أما على المستوى التعليمي، فلنا مثال في حالة المدرس الذي يلبي متطلبات المؤسسة المدرسية بتدريس نفس المستوى بنفس الطريقة لسنوات عديدة دون أن يحدث أدنى تعديل عليها. قد يحالف بعض النجاح فردا من هذا القبيل لفترة محدودة، دون أن يظهر قدرا من الإبداع. يمكن القول، بلغة متداولة، "إن هذا المدرس ينفذ بأمانة بعض الأوصاف".
أما في المستوى الثالث فليس التطبيق استجابة تلبي متطلبات الوضعية فحسب، بل إنه بالنسبة للفرد، بحث عن الحل -الخلاق بطبيعة الحال- الذي يوافق المشاكل التي تعترضه في واقعه اليومي. إنه، بذلك، مرتبط ارتباطا وثيقا بنوع من النشاط السيكولوجي المكثف من أجل معرفة أو الوقوف على المشاكل المطروحة، وتحليل عناصر الوضعية، والبحث عن حل عوض الاكتفاء بتطبيق الوصفات المعروفة قبل (أو، إن تعلق الأمر بوصفة، القيام بها عن وعي تام وقدرة على تبريرها). من المفروض أن تكون هذه الحالة حالة كل المربين والمكونين داخل أقسامهم وبين مجموعاتهم. فلكل وضعية تربوية مشكلها أو مشاكلها الخاصة، ومن الصعوبة بمكان تخصيص حلول بيداغوجية لكل وضعية تربوية، سواء أكانت هذه الحلول منتظرة أم محددة سلفا: فالبحث المتواصل عن الحلول الأكثر ملاءمة لتجاوز الوضعيات المواجهة هو بالضبط ما يجب على المدرس أو المكون القيام به.
2 - كيف تتشكل المعرفة الإمبريقية؟
سنعيد النظر في مستويات التطبيق، المشار إليها سابقا، من زاوية مغايرة وذلك لمعرفة الطريقة التي تتكون بها "المعرفة الامبريقية" لدى الممارس.
أ - إن الدراسة الممحصة للمسألة تستوجب استحضار كل ما أنجز من دراسات حول "نظريات الفعل" من قبل مختلف الباحثين. سيتطلب الأمر دراسة مطولة جدا، تبدأ بأرسطو، وتمر بكانط وعقلـ (ـه) الخالص، فماركس وتحليلاته لـ"شروط وجود" المجتمعات، فبولندل Blondel و"نظريتـ (ـه) في الفعل"، وصولا، عبر قفزات كبيرة، إلى علماء الاجتماع المعاصرين من أمثال بورديوه ومفهومه في الـ"حس التطبيقي". في الجانب السيكولوجي لن ننسى مدرسة الاتحاد السوفيتي سابقا (فيجوتسكي، ليونتييف، لوريا)، وجون ديوي من العالم الأنكلوساكسوني، ومن العالم الفرانكفوني أسماء مثل جان بياجيه، إيدوارد كلاباريد، وعلى الخصوص هنري فالون في مؤلفه الأساسي: "من الفعل إلى التفكير".
ب - كل الأفعال تولد معرفة، ما عدا الأفعال الإرادية والحركة النمطية (وفيها نقاش). والمدرس يكتسب ما نسميه "تجربة". والتجربة، كما نعرفها، هي: "مجموع المعلومات، والمعارف connaissance، والمواقف التي اكتسبها الفرد خلال حياته عن طريق الملاحظة التلقائية للواقع ولسلوكاته اليومية، والتي تندمج مجتمعة في الشخصية بشكل تدريجي". باصطلاحات عالمة أكثر سيتحدث بيير بورديوه عن "استدخال الماهو خارجي Une intériorisation de l'extériorité ". عندها نقول إن المدرس قد اكتسب من الأقسام الابتدائية تجربة قائمة على دراية واسعة بها، وذلك في حالة ما إذا كان قد درس بها سنوات طويلة وطبق نشاطا بيداغوجيا من نمط المستوى الثالث أو الثاني.
ومع التقدم في العمر، تنمو، بشكل طبيعي، هذه التجربة المكتسبة"، وتتنوع بتنوع الوضعيات التي خبرها وعاشها الفرد. تجربة تختلف من فرد لآخر وترتبط بشخصيته: إذ يحتاج البعض لوقت قصير، والبعض الآخر لوقت أطول لتكوين "تجربة" خاصة. وفي كل الحالات تظل هذه التجربة شخصية جدا وصعبة -إن لم نقل مستحيلة- النقل.
تعتمد هذه "التجربة المكتسبة" بالأساس على حدس المدرس و"فطنتـ"ـه، دون أن يكون للإجراءات السيكولوجية أو العلمية الخاصة أي تدخل واضح؛ وبتعبير آخر، غالبا ما تكتسب هذه التجربة بطريقة شبه لا شعورية، ولا تمر إلى الآخرين بشكل تلقائي. فعادة ما يعجز الفرد عن تحليل سبب وكيفية حصوله على هذه الطريقة في الفعل أو تلك الطريقة في التفكير. وعلى الرغم من ذلك تترجم هذه الطريقة في سلوك وعادات الفرد وشخصيته ، لتصبح له طبيعة ثانية. غير أن اكتسابها بطريقة لا شعورية يجعل نقاشها يقل بشكل تدريجي، وتقل بذلك مراقبتها الواعية.
نشير من جهة أخرى إلى أن هذه التجربة تكون إما غنية جدا، وإما جامدة تماما وإما خليطا بينهما. فهي غنية إذا حملت المدرس على التفكير فيما يقوم به، وكانت المواجهة بين رغباته، وبين متطلبات الواقع تؤدي إلى جدل ثاقب يدفع إلى التأمل. وهي جامدة إذا ما اعتقد المدرس، دون تمحيص، أن ما يقوم به فعلا حسن لا يتطلب أي تعديل أو تطوير. في هذه الحالة، يجعل التطبيق الممارس، تدريجيا، يقمع تماما بالمحاولات الأولى، فيحول بينه وبين كل أشكال التأمل وأية محاولة للتحسن. وعليه، فإذا كانت الحالة الأولى تعرف التطور والتحسن انطلاقا من تحليل الإخفاقات، يتم في الحالة الثانية إحالة حالات الفشل -خاصة تلك التي يقع فيها التلاميذ- على عوامل خارجية: اكتظاظ القسم، المستوى العقلي للتلاميذ…. فيصبح المدرس سجين ممارسته التطبيقية. نضيف في النهاية أن المدرسين الذين لهم سلطة داخل القسم، ودأبوا على اعتبار أنهم "على صواب دوما"، ينتهون إلى الميل نحو "الانغلاق دون التجربة imperméable à l'expérience"، حسب تعبير ليفي ستراوس.
ج - التكيف مع الوضعية ومع الأفراد ومع الشروط الآنية خاصية كل فعل يستحق حقا صفة التربوي. إننا لا ننكر أبدا عمل نفس الشيء، والوضعيات التربوية لا تتشابه تشابها مطلقا: إذ الزمن يجري بشكل غير متجانس، فيتغير التلاميذ بفعل التقدم في السن، ويتبدل المدرسون. ولقد أخبرنا هيراقليط، منذ زمن بعيد، أننا: "لا نستحم دوما في نفس النهر". إذ ذاك تبرز، في الحالات المثلى، تغيرات "إمبريقية" على التكيف، تغيرات تقع على العمليات التي كانت تبدو للمربي سليمة، كما تقع على ما يجعله يعتقد في السير الأفضل للأمور. حينما تحدث هذه التغييرات عن وعي، فلن يتردد المدرس عن إعلان نيته في البحث عن أحسن السبل لأداء عمله؛ له الحق في هذا ما دام أن هناك مجهودا لتغيير أو تحسين الفعل التربوي. غير أن اصطلاح الـ"بحث" هنا كما هو واضح ينتمي إلى مجال هذه الـ"بحوث الإمبريقية"، التي تشابه طبيعتها الإبيستيمولوجية طبيعة البحوث العلمية التي سنتناولها بالدرس فيما سيأتي؛ إذ يتحدد الهدف الأساسي من "الـبحث الإمبريقي"، في المقام الأول، في تعديل الفعل الذي يمارسه المدرس على التلاميذ، الأمر الذي لن يخلع عنه أهميته بالنسبة للتطور البيداغوجي، ولا القيمة التي يمثلها بالنسبة للتوازن النفسي ووعي الفرد بذاته. وعلى العموم، فما يكون "تجربة" المدرس، في جزء كبير منها، هي نتائج هذه المحاولات، موفقة كانت أم فاشلة، علما أن لهذه "التجربة" ارتباطا وثيقا بحياة المدرس وفعله والظروف التي يختبرها (تلاميذ، مؤسسات، زملاء…). وفي أفضل الحالات، يعطي الاندماج الأحسن لمجموع الشخصية سمات خاصة يمكن التعرف عليها بسهولة وتجيز الحكم دون قيد بـ"أنه(ـها) مدرس(ـة) مجرب(ـة) أو أن له(ـها) تجربة غنية".
د - من الأهمية بمكان الإحاطة بصيغ تشكل هذه "التجربة"، وذلك لقدرة هذه الأنماط على التمييز بين المدرسين ولتوضيح نوعية العلاقات الممكن قيامها بما سنسميه بـ"التجربة العلمية". وبالفعل يمكننا ملاحظة وجود مستويات لتشكل هذه "التجربة"، والتي سنفصل فيها القول أدناه.
من الممكن، في مقاربة أولية، التمييز بين عمليات تأخذ المدرس إلى ثلاث وجهات جد متباينة من حيث النتائج:
-إلى تجربة جامدة Sclérosante؛
-إلى تجربة مغتنية؛
-إلى تجربة من النمط العلمي.
في الحالة الأولى يكون التكيف مع الوضعيات الجديدة منعدما، حيث تحدث الأشياء تماما كما حدثت أول مرة، دون إمكانية تسجيل أي تغيير وإقصاء كلي للتكيف، فيعيد المدرس فعل ما فعله في السابق دون ملل ولا كلل. إن التجربة المهنية -وأيضا المعيشية بكل تأكيد- محصنة بدرع حجري يتقوى بشكل تدريجي، تتزايد معه استحالة حدوث أي تغير أو تكيف، إراديا كان أم مفروضا. في وضعية قريبة من هذه، وهي قليلة نسبيا، يحدث بعض الأفراد أحيانا بعض التغييرات تنفيذا لرغبة تلبي حاجة مرضية في التجديد، دون أي استفادة من التجربة السابقة في بناء التجربة الجديدة. في هذه الحالة أيضا لا تقوم التجربة الحالية بتعديل أو تقويم للتجربة المكتسبة ولا تؤدي، بالتالي، إلى أي تغيير سيكولوجي لدى الفرد.
أما في الحالة الثانية، وهي الأكثر شيوعا لحسن الحظ، فالوعي بأشكال النجاح والفشل، وبالخصائص المتجددة للوضعيات والشركاء (تلاميذ، زملاء، آباء…) يحمل الفرد على أن يسائل تجربته ويطرحها للنقد باستمرار، وأن يصحح ممارسته وأشكال علاقته بالعالم الخارجي. لا يتعلق الأمر هنا بإجراء من النمط الـ"علمي"، وإنما إجراء من نمط فينومينولوجي يعد عاملا من العوامل الأساسية للإثراء النفسي لدى الفرد. في هذه الحالة، غالبا ما نجد مدرسين لا يقفون عند استثمار تجربتهم الحالية فقط، وإنما يعملون على إغنائها بالاستفادة من تجربة الآخرين، إما عبر القراءة وإما عن طريق مشاركتهم في العمليات البيداغوجية التي تعتبر إمكانية تبادل التجارب الشخصية من بين أهدافها. فالتجربة المكتسبة حسب المعنى الأقرب إلى الاصطلاح، تجربة "مغتنية".
في مستوى أعلى، يمكن لهذا التكيف، وهذه التعديلات أن تحدث تبعا لشروط أكثر موضوعية، متمثلة في الاهتمام بالمراقبة الموضوعية للنتائج، أي بالتقييم (حتى وإن ظل هذا التقييم ذا طابع كيفي). وهكذا يعمل المدرس على ملاحظة وتقييم وقياس النتائج الجديدة التي يسجلها مع تلامذته، ومقارنتها بالنتائج السابقة… فلم يعد يكتفي بذاك الشعور الغامض، أو بالاقتناع القائم تقريبا على الحدس، أو بالانطباع؛ بل أصبح يبحث عن سبل جعل أحكامه أحكاما قائمة على أسس أكثر متانة وموضوعية. ليس ضروريا أن يستعمل المدرس، في حالات كثيرة، الـ"أدوات علمية" متخصصة، وإنما يكتفي باستعمال وسائل المراقبة والتقييم التي تدخل في نطاق عمله، بحيث يمكن القول إنه يشق طريقه نحو "تجربة من النمط العلمي". وهذه الطريقة في تحليل النتائج قد تؤدي، في حالات معينة، إلى نوع من التنسيق بين المدرسين للقيام بمقارنات بين مناهجهم وبين النتائج التي يتوصلون إليها. وهنا أيضا يمكن للقاءات التي تتم خلال العمليات البيداغوجية أن تلعب دورا جد إيجابي. على أن من أهم مميزات هذه الـ"تجربة من النمط العلمي"، إمكانية نقلها إلى الآخرين، نظرا لما تبذله من جهد في شرح وتوضيع معاييرها في الحكم، وفي استعمال وسائل تقييم من الممكن تقديمها، ونقلها، تحليلها ومناقشتها.
لنشر أيضا إلى أن تطبيق المدرس للمستوى الثالث من الممارسة البيداغوجية، سيجعل تلامذته يعتادون موقفا علميا قريبا من موقف الدارس، كما سنرى فيما بعد.
على هذا النحو تتشكل "معرفة المنهج العلمي" هذه، متميزة بذلك عن الـ"معرفة العلمية" التي سنقوم بمعالجتها بعد حين. من الملاحظ أن هذه المعرفة، في مجموعها، غير متجانسة سواء على المستوى الفردي أو على مستوى مجموع هيئة التدريس. فمن الصعب القول، عن فرد واحد إن "تجربتـ"ـه من هذا النمط أو ذاك فحسب، بل من البديهي أن تكون تجربتنا الشخصية مزيجا من الأنماط الثلاثة، التي سبق تقديمها موجزة، مع سيطرة كبيرة نسبيا لنمط على الأنماط المتبقية. هنا يبرز سؤال على جانب كبير من الأهمية، لكنه خارج عن نطاق هذا الفصل: كيف يمكن للتكوين الأصلي، وللتكوين المستمر على الخصوص أن يساهم في تغيير بنية "تجربتـ(نا) الشخصية"، وبأية طريقة؟ إنها مسألة أخرى كما يقال.
حول البحث العلمي في المجال التربوي:
إذا كان البحث العلمي آخر مستجدات العقل البيداغوجي، فلقد أسس "معرفة" ذات طبيعة إبيستيمولوجية مغايرة، الأمر الذي سنعمل على توضيحه الآن:
1 - تختلف أهداف الـ"بحث العلمي" كلية عن أهداف الـ"بحث الإمبريقي". فإذا كان الهدف الأساسي من الـ"بحث الإمبريقي" تقويم الفعل، كما سبق قوله، فالهدف الأساسي من الـ"بحث العلمي" البحث عن "تفسير" و"فهم" (بالمعنى الديكارتي، لا الفينومينولوجي، للإصطلاح) الذي يحدث أثناء الوضعيات التربوية، والبحث ضمنها عن أسباب وكيفيات حدوثها، ثم تحليلها. آثار هذا الفعل سيتم استخراجها من خلال النتائج، مما يعني وجود مدة زمنية، قد تكون طويلة أحيانا، تفصل البحث عن الفعل. وبالفعل فالهدف، كما يقول بويز R. Buyse الباحث التجريبي، هو اكتشاف و/أو البرهنة على القوانين التي تعمل الوضعيات التربوية حسبها (مع أخذ كلمة القانون هنا بالمعنى العام أي إبراز التنظيمات، والعلاقات النوعية والكمية).
2 - خطوات البـ"بحث العملي" مختلفة كثيرا عن خطوات الـ"بحث الإمبريقي". فعلى عكس المربي، يعود الباحث نفسه، بالدرجة الأولى، على تنصيب مسافة تأمل بينه وبين موضوع البحث. أما المدرس فمكانه داخل قسمه، يندمج مع كل ما يقع داخله، ويتفاعل وجدانيا وعلى الأخص، بشكل آني مع ردود أفعال تلامذته. في حين يتعين على الباحث المجرب اتخاذ موقف مغاير: أن يحاول قدر الإمكان أن لا ينصهر بشكل عاطفي في الوضعية، ويحاول عيش التجربة وكأنه خارج الوضعية، مما تتولد عنه صعوبات إبيستيمولوجية وأخلاقية مهنية في المجال التربوي. إنه، إذا صح التعبير، تعارض مشابه للتعارض الموجود بين الحدس البرغسوني والحدس الديكارتي.
3 - قبل البدء في الدراسة، والقيام بالتجربة، يتعين على الباحث البدء بتحليل موضوعي، شامل ودقيق للوضعية بغرض استخراج المتغيرات المحددة لها وجردها جردا شاملا. لا يطالب المدرس بإنجاز هذه الإجراءات خلال "بحثـ (ـه) الإمبريقي"، إذ أنه يكتفي، عموما، بالانطباعات العامة التي تسببها له الوضعية والتلاميذ، ويكتفي في إصدار حكمه على المعطيات الواضحة والخارجية التي تسهل ملاحظتها. أما الباحث العلمي، فغالبا ما يتوجب عليه الشروع، في مرحلة أولى، في إجراء بحث أولي يبرز فيه ويحصي المتغيرات المحددة للوضعية. ولا تصبح التجربة قابلة للتنفيذ إلا حين ينجز هذا العمل ويصبح من الممكن، أثناء بلورة تصميم التجربة، تحديد المتغيرات المستقلة، ومعاينة كيفية تبدل المتغيرات التابعة تحت تأثير عامل التجربة. وعليه فالـ"تجربة الإمبريقية" للمدرس تجربة آنية مباشرة، في حين تحتاج الـ"تجربة العلمية" إلى وقت أطول.
4 - أثناء القيام بدراسة علمية من الضروري تجميع الملاحظات والمعطيات المباشرة المتاحة تجميعا شاملا قدر الإمكان. فالعالم الباحث يعلم حق العلم أن عدد المتغيرات في كل وضعية تربوية، ولو كانت "بسيطة"، يكون جد مرتفع حتى لا نقول لا نهائي؛ وعلى الرغم من أننا لا نعرف بشكل مقنع إن كان التمييز بين المتغيرات الأساسية والمتغيرات الثانوية مناسبا بالفعل، إلا أنه يبقى أمرا ضروريا. أما المدرس فليس له سوى تجميع بعض وجهات النظر: ردود أفعاله وأفعال تلامذته، وأحيانا ردود أفعال الإدارة والآباء. إن تفسير النتائج العلمية المحصل عليها تفسيرا سليما يقتضي الأخذ بعين الاعتبار عددا كبيرا من المتغيرات؛ نسيان واحد أو أكثر من المتغيرات قد يؤدي إلى تغيير كلي في تفسير النتائج، الأمر الذي يسهل تقديم أمثلة عنه.
5 - يضم البحث العلمي، على اختلاف ميادينه، مبدأين أساسيين، هما: مبدأ الشفافية، ومبدأ القابلية النسبية لإعادة التجربة. فمن الضروري أن تكون كل الخطوات التي يقوم بها الدارس واضحة ومقبولة، ما دامت شفافية مجموع هذه الإجراءات هي أولى مميزات كل عمل علمي. بالمقابل ليس بمقدور المدرس دوما تفسير سبب قيامه بهذا الإجراء أو ذاك، لاعتماده على حدسه دون أن يكون قادرا دوما على تبرير وتفسير سبب نهجه تلك الخطوات. أما المبدأ الثاني الصعب، إن لم نقل المستحيل، أعني التحقق بشكل مضبوط ضمن وضعيتنا التربوية، فهو مبدأ قابلية التجربة للإعادة: إذ من الضروري أن تكون التجربة قابلة لأن تكرر حتى تؤكد أو تلغى. نعلم، بالاتفاق مع هيراقليط، أن الشروط لا يمكنها أن تكون دوما متماثلة بشكل دقيق، إلا أن المناهج الحديثة في تحليل النتائج تسمح لنا بإبراز العوامل التفاضلية وأهمية كل واحد منها، مما يمكننا من إيجاد المجموعات المتشابهة نسبيا التي يمكن إجراء التجربة عليها من جديدوضعية المدرس تختلف اختلافا جوهريا: فمن غير الممكن أن يعيد الوضعية التربوية التي عاشها هو وتلامذته بدقة تامة، لكون الفعل التربوي فعلا محددا في الزمن، ولأن كل إعادة تعد، في حقيقة الأمر، وضعية جديدة.
6 - أحيانا يتعذر على المدرس استيعاب مناهج تحليل النتائج المقنعة التي يستعملها الباحث. فإذا أخذنا، مثلا، دراسة إملاء تلاميذ قسم معين، نجد أن المدرس يصحح التمارين، ثم قد يعمد إلى تحليل الأخطاء المرتكبة أو أنماط معينة منها، وتحليل أشكال بسيطة من العلاقات الكائنة بين التلاميذ وبين الأخطاء التي ارتكبوها. إنه عمل طويل لا يمكن أن يشمل جميع التمارين، الواحد بعد الآخر. أما الباحث فباستعماله الوسائل المعلوماتية يمكنه بسهولة كبيرة القيام بنفس العمل، بل ويضيف إليه الارتباطات الإحصائية بغرض إبراز أوجه أسباب الخلل، وبحث العلاقة الممكنة بين الأخطاء المرتكبة وبين عوامل أخرى من قبيل المستوى اللغوي، والمستوى الفكري، والفئة الاجتماعية واللغوية للتلميذ، ودور عامل الجنس، ورتبة الطفل بالنسبة لإخوانه في الأسرة… وهكذا تنضاف إلى النتائج الفردية سلسلة معلومات تسمح بتفسير سليم للأخطاء المرتكبة، وبالتالي، استنتاج ما يمكن أن يفيد، بشكل عام، جانب الفعل التربوي.
7 - بحث الدارس عن التفاسير الممكنة مرحلة أساسية من مراحل البحث: فالنتائج، الكيفية منها والكمية شيء، والدلالة التي يجب إعطاؤها لها شيء آخر. إن النتيجة من حيث هي كذلك فارغة: إذ يجب أن نعيد تحديد موقعها إزاء الوضعية أو الوضعيات التي حصلت ضمنها، وأن تقارن مع نتائج أخرى غيرها لتكون لها دلالة مقبولة ومعترفا بها من قبل جميع الباحثين والممارسين. تتطلب هذه المرحلة كثيرا من روح "الدقة" "de finesse" esprit كما قال باسكال، ومعرفة كاملة بالوسط الذي حصلنا فيه على تلك النتائج، مما يجعل التعاون بين المدرسين والباحثين أمرا ضروريا في هذه المرحلة من البحث. سيؤدي بنا هذا إلى التساؤل فيما بعد عن نوعية العلاقة الكائنة، أو التي يمكن أو يجب أن تقوم، بين هذه الـ"معرفة من نمط النهج العلمي" وبين الـ"معرفة من النمط العلمي". بعبارة أخرى. ما هي الجوانب التي يمكن لهذين الشكلين التعاون فيها بشكل ثنائي، وما نوع الإفادة التي يمكن للباحث أن يقدمها للممارس؟
ملاحظات حول الـ"معرفة النظرية" في المجال التربوي:
اصطلاح الـ"نظرية" في المجال التربوي اصطلاح غير واضح بما فيه الكفاية لكونها تنبني على صرح حقائق تنتمي لمستويات تتباين فيما بينها تباينا كليا رغم العلاقات التي تجمعها.
1 - التنظير المؤسساتي، البرامج، التوجيهات الرسمية والتطبيق.
غالبا ما يقارن المربون ممارستهم اليومية بالنصوص الرسمية (التوجيهات الرسمية)، وبالبرامج المقترحة من قبل القانون. فالـ"نظري" هو كل ما يتم اقتراحه، ما يتم فرضه، الشيء الذي يعطي الإحساس بضعف الصلة بين النصوص الوزارية والممارسة اليومية. وكلما ذكر أحد المسؤولين بالتوجيهات الرسمية اعتبره المربي "منظرا".
2 - تشمل المعرفة النظرية مجموع التصورات الفلسفية-التاريخية التي سبق لنا الحديث عنها في بداية هذا الفصل. إنها مجموع ما تراكم من تحاليل فكرية ونظريات وتعاليق، سواء قدمها المربون والفلاسفة، أوقدمها مختصون آخرون ينتمون حاليا لحقل علوم التربية: اقتصاديون، ديموغرافيون، اثنولوجيون، سوسيولوجيون… غير أن فلسفة التربية وتاريخ التربية، على الخصوص، يشكلان معارف نظرية ذات أهمية قصوى، رغم أنهما يبدوان أحيانا بعيدين عن اهتمامات المدرسين العملية داخل القسم، واهتمامات المكونين بالميدان.
3 - تأخذ المعرفة النظرية أيضا شكل إيديولوجيات بيداغوجية وتترجم في مبادئ تيارات تربوية كبرى: ونتيسوري، ديكرولي، كوسيفيه، فرينيه و G.F.E.N… وعلى الرغم من أنها تنادي بمبادئ متقاربة، إن لم نقل مشتركة، وأنها تعترف بما نسميه بالـ"تربية الحديثة"، فإن لكل تيار مذهبه، وخطواته الخاصة، ومناهجه وتقنياته.
4 - تبقى، أخيرا، المعرفة النظرية التي تنحدر عن التطبيق والتي لها صلات قوية بما سميناه بالـ"المعرفة الفعل". ففي حالة تطبيق ممارسة تربوية من المستوى الثالث (انظر قبله)، لا تغتني تجربة المربي بالمعارف فحسب، وإنما يتبلور قبس تفسير نظري للتجربة المكتسبة.
أشكال العلاقات بين التطبيق، والنظرية، والبحث والتكوين:
1 - تتلخص الفكرة العامة التي ننطلق منها في تبيان أن الـ"معرفة الإمبريقية" والـ"معرفة النظرية" والـ"معرفة العلمية" لا يجب أن تكون متقابلة ولا متراتبة: فلكل واحدة منها مبررات وجودها، وأهميتها وضرورتها. لا يجب على أي منها إقصاء الأخريات، ولا أن يكون لها امتياز عليها. لكن هل يتعلق الأمر فقط بتعايش ساكن؟ على العكس من ذلك نعتقد أنه يتعلق بتعاون دينامي، يخدم بالدرجة الأولى مصلحة التلاميذ والمدرسين والباحثين والمجال التربوي. وسنعمل على توضيح هذه الفكرة بشكل موجز، ما دام التحليل الشامل للعلاقات الكائنة بين المجالين تتطلب لوحدها فصلا طويلا جدا.
أ - إن الـ"معرفة الإمبريقية" بالضرورة معرفة متخصصة وموضعية، في حين أن الـ"معرفة العلمية" تطمح لأن تكون معرفة عامة. والحال أن كل تفسير أو فعل، سواء في علوم التربية أو خلال الممارسة التربوية، لا يقبل أن يكون خاصا فقط، أو عاما، فقط. فمن الضروري أن يمتح تكوين فرد ما من ينبوعي الفردانية والكونية. نفس القول يصدق على تفسير نتائج البحث العلمي: إذ عليها أن تهتدي إلى الجانب المتفرد والجانب المشترك مجتمعين لدى الكثير من مجموعات الأفراد؛ غناها يكمن، بالضبط، في هذه الجدلية الدقيقة التي تربط بين هذين النمطين من المعرفة. لذا نعتقد أن هذين النمطين لا يغتنيان داخل حصون نقائهما وقيمتهما وإنما خلال تواجههما.
ب - ومع ذلك، لا بد من التساؤل بدقة كبيرة عما يمكن للبحوث العلمية في المجال التربوي أن تقدمه من مساعدة لتحسين أداء المربي، وبالتالي، لإغناء الـ"معرفة المتعلقة بالتطبيق العملي"؟ أهمية هذه النقطة تكمن في كونها تبرر جزئيا، وجود علوم التربية.
-الوصف الدقيق والموضوعي لما يجري داخل وضعية تربوية، وإمكانية نقل صادق وأمين لما يجري بالفعل كي يراه المدرس (مواقفه، مواقف تلامذته، مجموع العلاقات، اتصالات…) يشكلان واحدا من العناصر الأساسية التي تسمح بتشكل الوعي لدى كل مربي في حالة ما إذا لم يكن يرغب في العمل كالأعمى في الظلمة. ودون إصدار أي حكم قيمة على التصرفات الملاحظة، بمقدور الباحث أن يساعد المدرس على الوعي. بواقع عاشه دون أن يتمكن من ملاحظته بدقة، لكونه عنصرا من عناصر الوضعية النشيطة. ومفعول المرآة (انظر أعمال فالون حول مرحلة "المرآة" في نمو الطفل مثلا) مفعول مفيد دوما لمعرفة الذات. فكل المكونين يعرفون أهمية التسجيلات المنجزة داخل الأقسام وما ينسج حولها من تعاليق من قبل كل من المدرسين والباحثين مجتمعين.
-كما سبقت الإشارة إليه، من الضروري المرور من الوصف البسيط إلى محاولة ملامسة تفسير لما يقع وفهم أسباب الفعل التربوي، ودينامية الوضعية، وبروز التناقضات، والصعوبات أو التسهيلات، وكذا فهم أسباب عدم تحقق الأهداف المتوخاة. هكذا يمكننا، بطبيعة الحال، المساهمة في تحسين أداء المدرس بالانطلاق من نشاطه الخاص. كما يمكن للباحث وللمدرس على حد السواء القيام، من جهة أخرى، بمقارنة الوضعيات مقارنة موضوعية والوصول إلى نوع من التعميم، انطلاقا من التحديد الموضوعي لمتغيرات الوضعية وللمؤشرات المرتبطة بها التي تسمح بوصفها.
-من الانعكاسات المباشرة لهذا الإجراء البحث عن تفسير السلوكات وفق تصور أكثر شمولية والانتهاء إلى منح الوضعية معنى جديدا (مثلا إدخال عناصر تاريخية أو سياسية أو إثنولوجية مرتبطة بالوضعية). من شأن هذا إعادة طرح مشكل المرامي الدقيقة والمحددة ورسم الحدود التي لا تحتاج بعدها إلى تعديل. فالتعارض بين ما يخططه المربي من مشاريع، وبين تحقيق فعله التربوي المتوخى، وبين ما يحققه التلميذ من نتائج، قد يبيح التساؤل من جديد حول بعض المرامي والأهداف المرجوة سواء من طرف المعلم، أو من طرف التعليمات الرسمية.
-الوصف الموضوعي الذي يرافق البحث عن الدلائل والمؤثرات المناسبة التي تسمح بهذا الوصف، والاهتمام بتقديم تفسير موضوعي يشكلان عونا واضحا ومثمرا لتقييم الوضعية التربوية بشكل أكثر دقة. فعلاوة على ما يعرفه التقييم من مشاكل في الوقت الحاضر، يعتبر التقييم "الإجمالي" القديم متجاوزا بشكل كبير، ومن الضروري البحث عن أشكال جديدة لكل تقييم يتغيى الموضوعية والسداد.
-بحوث من هذا القبيل تعتبر ضرورية خاصة إذا تعلق الأمر بمسألة نقل المعرفة البيداغوجية، ومن ثمة، بمشكلة تكوين المدرسين. ففي الوقت الراهن لا يمكن أن ينحصر تكوين المدرسين على الخطب الفضفاضة حول الوظيفة التربوية أو على تقديم المناهج والتقنيات والإجراءات المتعامل بها. إذا أردنا أن يكون مربي الغد، بالفعل، فردا قادرا على أن يفكر في عمله وفق طرحات جديدة، فمن الضروري تعويده على تحليل الفعل الذي يقوم به بغرض تجاوزه بشكل مستمر، والسماح له بإيجاد حلول تتجدد بتجدد المشاكل التي تعترضه -وستعترضه مستقبلا-
2 - من الممكن معالجة المسألة بشكل آخر، وذلك انطلاقا من التمييز بين مستويات التطبيق المشار إليها سابقا.
أ - واضح أن نشاطا من النمط الأول لن يجد له امتدادا في أي من المستويات الثلاث التي نريد تقصيها. فالنشاط لا يخضع لأية سلطة ولا يسمح بأية عودة إليه. استخدام النشاط الفكري منعدم، والتجربة الشخصية للفرد لا تغتني، ولا تضيف أية خبرة. وبين الفعل السابق والفعل اللاحق يتقدم الفرد في السن دون أن يغني تجربته.
ب - تتغير الوضعية تماما حالما يتعلق الأمر بالنمط الثاني من النشاط. فالفرد يستجيب لمؤثرات الوسط عبر سلسلة من الأفعال والسلوكات والممارسات المكتسبة دون الذهاب بعيدا في البحث عن حل للمشاكل التي تعترضه. إنه فرد مهووس بالتنفيذ الآلي اليومي، وتفكيره موجه كلية إلى ما يقوم به من فعل، وإلى تحسين فعله التربوي حتى وإن لم يكن، في الحالات القصوى، ذا علاقة بالتكيف مع الوضعيات الحقيقية.
-يظل البحث محصورا في مدار الفعل المباشر، فيطبق الفرد، في أحسن الحالات، ما قدم له من وصفات بشكل رائع، لكنه خال من كل أصالة وإبداع.
-يكتسب الفرد شكلا من الممارسة المتكررة، فلا تراوح خبرته منها مكانها، بعد وقت قصير، ستصبح هذه الممارسة ذاتها جزءا من شخصية الفرد، لدرجة اعتبارها معرفة صلبة ويقينية. إنها حالة المدرسين الذين بعد تقديمهم نفس الدروس لسنوات عديدة -مع تفاوت في الدقة- يعتبرون أنهم قد اكتسبوا معرفة واسعة بمواضيع هذه الدروس، والتي لا تماثلها في القيمة أية معرفة نظرية أخرى. إنهم لا يقبلون بتاتا أن يفكر الآخرون عكس ما يتقنونه من معرفة، لأنهم متأكدون أنهم على حق "بناء على تجربتهم". لكل منا معرفة بأساتذة شيوخ يتبجحون بترديد: "عندما تصبح لكم تجربة هذه السنوات العديدة مثلي…"، قولة تصبح حاجزا منيعا أمام كل تطور. يماثله في هذا الإسكافي الذي لا يتقن سوى صنع نوع واحد من الأحذية، دون القدرة على تعديل التصاميم الأولية حتى تساير أشكالا أخرى وأنماطا جديدة؟ وهكذا يصبح الاهتمام متزايدا، بالفعل، بالإجراء عوض المنهج وبالتنفيذ المباشر عوض الرؤية الشاملة وبناء الفعل. فإذا كان المعلم يصحح الأخطاء الإملائية التي يرتكبها التلاميذ، فإنه لا يفكر في طرق تجنب الوقوع فيها من جديد؛ يصحح الأخطاء دون تطبيق أي بيداغوجية ذكية وفعالة في درس الإملاء.
-بإمكاننا أن نضع اليد على ما ينتج عن أي موقف من المواقف من عواقب، سواء تعلق الأمر بالراشدين أم بالأطفال. ففي مستوى أعلى، يرتكز التكوين المهني للمدرسين على تلقين الطلبة-المعلمين وصفات جاهزة وطرق للاشتغال، وكأن النظام التربوي يعيد إنتاج وضعيات لا تتغير لا في المكان ولا في الزمان. فيتحول التكوين البيداغوجي إلى مجموعة "طرق العمل". ويصبح للطلبة-المعلمين قدوة يتشبهون به متمثلا في نموذج "أحسن معلم". أما في مستوى أقل، فيتعرض تكوين التلاميذ لخطر بيداغوجية الوصفات الجاهزة، التي تحول دون تحفيزهم على التفكير، وعلى جعلهم يبحثون بأنفسهم عن سبل حل المشاكل: إنها تحمل معها حلا جاهزا للمشاكل، وهو الميدان المفضل لـ"بيداغوجية التماثل la pédagogie de la convergence"، حيث إننا إزاء بيداغوجية مستوحاة من بيداغوجية هوكسلي A. Huxley القائلة "بالأفضل بين الأقران".
-لا بد من الاعتراف بأن الأوساط المعنية (البيداغوجية والمهنية) لا تتخذ دائما موقفا نقديا تجاه بيداغوجية من هذا القبيل. فتلك الأوساط، ولتمجيدها لـ"التكوين التطبيقي" ترى أن لهذه البيداغوجية الفضل في عدم تعويد التلاميذ والعمال التفكير والتبصر، ومن ثمة طرح الأسئلة. فتكون سعادة المشغلين عارمة إذا اكتفى العمال بالامتثال لما أمروا به، وبتشغيل الآلات التي يعملون عليها تشغيلا سليما! إذ الممارسة العملية هي الأهم دون سواها. كم ستكون الحياة العملية سعيدة وهي خالية من طلبات العمال! تحليلنا قد يأخذ هنا، أبعادا اجتماعية-سياسية، لذا نكتفي بهذه الإشارة، مذكرين أن التطبيق العملي لا يتطور في الفراغ وإنما ضمن فضاء إنساني، وتاريخي، واجتماعي، وسياسي يصبغ عليه معناه الكلي.
ج - مسألة العلاقات الكائنة بين التطبيق والنظرية والبحث ستأخذ أبعادها الحقيقية مع الممارسة العملية التي سبق لنا اعتبارها من النمط الثالث. التطبيق هنا لا ينفصل عن التفكير والبحث عن الحلول، وعن التدخل المكثف للنشاط النفسي. كل موقف يبدو وكأنه مشكل يتطلب حلا، مشكل يستوجب حلا يناسبه. إن التطبيق ليس استعمالا آليا ممنهجا للوصفات الجاهزة، بل إنه الاحتفاظ بالذهن في حالة تيقظ مستمر، مما يجعل التطبيق يقترن بالتفكير اقتران الروح بالجسد. وعليه، فالقيام بفعل قصدي هو، قبل كل شيء، إبراز المشكل والعمل على إيجاد الحل المناسب له؛ أما إبراز المشكل فهو تحديده، وتحليل مكوناته المختلفة وأوجهه المتعددة، وتحليل علاقاته بالسياق العام (المحيط). أما العمل على إيجاد الحل المناسب للمشكل فالمقصود منه الاستعمال الأصيل والغير النمطي لخطاطات الفعل المتوفرة قبلا أو المكتسبة خلال تكوين ما، كما يقصد به، بطبيعة الحال، البحث عن خطاطات فعل أخرى الغرض منها الوصول إلى الحل السليم. من الضروري أن تصاحب هذه العملية رؤية نقدية تجعل من كل مرحلة من مراحل حل المشكل وقفة لتقييم مدى ملاءمة الحل المبتكر وفعالية نتائجه. لتوضيح قولنا هذا نقدم، فيما يلي، تعليقا وتفسيرا.
"اكتشاف المشكل"-الواقع أن الخطوة الأولى لكل تطبيق ذكي هي معرفة طبيعة المشكل المطروح ولماذا طرح. لنضرب مثالا على هذا بجماعة القسم أو جماعة المتكونين، حيث يلاحظ الأستاذ أو المنشط أو المكون، وقد شرع في نشاطه التربوي، أن هناك نوعا من الاعتراض (المقاومة) من قبل المجموعة الجالسة أمامه والتي يطمح في مشاركتها. إذا كان المدرس ينتمي لفئة المستوى 2، الذي سبق لنا التعرف عليه، فسيطبق وصفته الجاهزة مثيرا بذلك معارضة أكبر أو إهمالا كبيرا من قبل المستقبلين، وذلك نتيجة عدم وعيه باختلاف الوضعية الحالية عن الوضعيات السابقة التي خبرها من قبل. أما المدرس أو المنشط المنتمي لفئة المستوى 3، فسيدرك منذ البداية أن هناك وضعية مختلفة عن التي كان يتوقع، وسيتساءل عن السبب في هذا الاختلاف، فيعمل على تحليل المتغيرات المحددة للوضعية لمعرفة أيها يسبب الصعوبة، أو الصعوبات المواجهة حاليا. هذا أمر يتطلب من المدرس أو المكون أن تكون له دراية مسبقة بتحليل الوضعيات التربوية (Mialaret, 1991) مما يعني اكتسابه، من خلال التكوين، للعناصر الأساسية للنظرية البيداغوجية وللبحث في المجال التربوي. انطلاقا من مستوى التكوين هذا يجب (بل وجب) أن يعمل التطبيق، والنظرية والبحث بطريقة متساوية، وعلى قدم وساق.
"البحث عن الحلول" - يتعلق الأمر هنا، سواء بالنسبة للأستاذ أو المكون أو المنشط، بالبحث عن الحلول الملائمة للمشكل الذي تطرحه الوضعية. الحل ليس آنيا ولا آليا (كما سيكون عليه الحال إذا ما تموقعنا في المستوى 2 الذي عرفناه قبلا). إن خطاطات الفعل التي اكتسبها الفاعل من قبل، تستعمل كما هي أو تستعمل في نطاق لم تخلق له أصلا، مما يستدعي، أحيانا، ابتكار تقنيات فعل جديدة. في هذه اللحظة بالذات، يصبح من الضروري أن يتصف الممارس أو الباحث بسمة أساسية ألا وهي: المخيال المبدع. لا علاقة لهذا الأخير بالمخيلة la folle du logis التي يتخوف منها البعض، لكون ديناميته تدخل ضمن الإطار النظري الذي يعتمد عليه الفاعل التربوي: فهو لا يؤدي إلى فعل غير مراقب (حالة المستوى1) ولا إلى سلسلة أفعال مقولبة Stéréotypées شبيهة بـ"المفتاح العمومي" (حالة المستوى 2). المخيال المبدع يؤدي بالفاعل التربوي، على العكس من ذلك، إلى تمثل صيغة الفعل تمثلا جيدا، وتحديد طبيعته ووظائفه التحديد الدقيق: إذ تتم، بالفعل، مرافقته بتفكير ذي طابع نظري حول مدى ملاءمة صيغة الفعل المتبنى للوضعية. وعليه تصبح ضرورة التنسيق ما بين معطيات الوضعية، والإحالات النظرية، وصيغ الفعل الجديدة المختارة، أمرا أساسيا عند البحث عن حل يلائم الوضعية.
ليس البحث عن هذا الحل من اختصاص المدرس أو المكون فقط، فقد سبق أن نبهنا إلى أن فعلنا لا يأتي من فراغ، بل إنه في تفاعل مستمر مع الوسط المحيط، الإنساني منه والجغرافي والمادي. إننا هنا أمام واحدة من أهم خصائص الفعل التربوي الناجح: ضرورة إشراك المعنيين بالفعل التربوي في تكوينهم الخاص. فما دام الفعل الذي يود المربي القيام به فعلا منظما يستشرف التأثير إيجابيا على المربى، فلقد أصبح حريا على هذا الأخير، حاليا، أن يكون "المربي لنفسه" le "s'éduquant ". كل هذا يدخل في إطار ما أكد عليه كانط من تقليد كبير مؤداه أن الإنسان هو الذي يؤسس معرفته وأنها ليست انعكاسا بسيطا للأفكار الأبدية؛ موقف سيقول به كذلك جان بياجيه في إطار نظريته البنائية، كما سيقول به أصحاب التيارات التربوية الحديثة ( وفي هذا الصدد تظل صياغة فريق G.F.E.N القائمة على "الإنبناء الذاتي – الاجتماعي للمعرفة" متميزة). إن إشراك التلاميذ أو الراشدين في البحث عن حل للوضعيات فعل تربوي من مستوى عال جدا (فعل تنكره البيداغوجية التقليدية التي تفرض الطريق الذي على الجميع تتبعه). وعليه فالبحث عن الحلول مسؤولية الجميع، والمربي مطالب بجعل هذه المرحلة من التكوين عنصرا من مشروع فعله التربوي. البحث عن الحلول وإيجادها تشكل معرفة جديدة تنضاف للفاعل التربوي (مدرسا كان، أم مكونا أن منشطا)، وعنصرا من عناصر تعلمه و "تجربتـ (ـه) المعيشة"؛ وتبعا للمبدإ الذي تعرفنا عليه سابقا، فالمعرفة الجديدة المكتسبة أحسن وأفضل نظرا لمشاركة الفرد في بلورتها وإدماجها المباشر في ممارسته العملية. إن التجربة المكتسبة ليست إذن تجربة معززة للخطاطات المكتسبة والمستعملة قبلا (حالة المستوى الثاني)، بل إنها معرفة مغتنية ومبتكرة، لا تسجن المعني في سلوكات سابقة، وإنما تجعل منه فردا منفتحا على كل الوضعيات المستقبلية، وتنمي لديه موقفا إيجابيا من التغيير يعتبره العديد من الفلاسفة والبيداغوجيين موقفا ضروريا من أجل العيش في الحضارة المعاصرة والتكيف مع العالم الحديث (Mialaret, 1991). ألسنا أمام واحد من المرامي الأساسية للتربية الحديثة؟
كل تطبيق ذكي (من نمط المستوى الثالث) يصاحبه بالضرورة "مجهود تقييمي" للآثار المحدثة. ففي حالة تطبيق من النمط الثاني يستعمل الفاعل التربوي الخطاطات المعروفة، فإن كانت النتائج غير مقنعة فإنه يميل إلى إلصاق سبب الإخفاقات بالتلاميذ والراشدين بدعوى "أنهم دون المستوى" أو، بشكل أشد قسوة، " أنهم بلداء". أما في حالة تطبيق من المستوى الثالث لا تشكل مسؤولية التلاميذ والراشدين التفسير الوحيد للوضعية، بقدر ما يتم تحليل النتائج حسب المتغيرات الكائنة. فالممارس للمستوى الثالث يعلم أن عوامل عديدة تدخل في كل وضعية تربوية معطاة، وأن فشل الوضعية إنما تشارك فيه وتساعد عليه هذه العوامل إما بشكل انفرادي أو ثنائي أو ثالوثي، أو بشكل جماعي، عوامل نذكر منها: الوضعية العامة، مجموعة المدرسين، مجموعة التلاميذ، عوامل خارجية، عوامل بنيوية… علاوة على ذلك، لا يمكن قط أن يكون فشل الوضعية من فشل التلاميذ: قد يعود سبب فشلها إلى المدرس، أو إلى الوضعية، أو إلى حجم ومحتوى الإرساليات المبعوثة (مفاهيم صعبة أو مقدمة بشكل رديء) (Mialaret, 1994). ويتزايد وعي الممارسين للمستوى الثالث بتعقد الوضعية التربوية وتعقد المحددات الفاعلة، التي تحددها وتوجه دينامياتها. فبقدر ما يتم الوعي بهذه العمليات، بقدر ما يصبح التطبيق مدرسة تكوينية بامتياز، وبقدر ما يمكن التأكيد على أن الإنسان يصير :"نتاج أفعاله عوض أن يكون السبب الدائم للأفعال الظرفية" (Dessanti, 1969). هذا الوعي سيبيح في ذات الوقت ابتكار فرضيات جديدة، وتدقيق بعض أوجه النظرية، والعمل على تغيير بنية النظريات الحالية اعتمادا على التطبيق الواقعي الذي تم تنفيذه بشكل ذكي. أضف إلى أن الموقف المنفتح و"القلق"، سواء للمدرس أو المكون، يحمله على التساؤل وإبراز المشاكل المطروحة، وبالتالي، على تبني أحد الشكلين الأساسيين للبحث في المجال التربوي: البحث من نمط النهج العلمي praxeologique، والبحث ذي الصيغة العلمية في المجال التربوي.
أثناء القيام بهذا النوع من التحليل تبرز المظاهر الجدلية للعلاقات الكائنة بين التطبيق، والنظرية والبحث. من البديهي أن يؤدي البحث عن حل لمشكل التطبيق إلى إحداث تغييرات عليه، وبالتالي، إلى إغنائه وإغناء البحث على حد سواء. إن التفكير في الجوانب النظرية لمسألة الممارسة التطبيقية يقود إلى إعادة النظر في أسس هذه النظرية وهي في حضرة حالة واقعية، وكذا إلى بلورة هذه النظرية وتحسينها انطلاقا من تأهيل التطبيق لأخذ مك
ترجمة: نور الدين البودلالي
خلال النصف الثاني من هذا القرن العشرين، تغيرت عقليات المدرسين والتلاميذ والآباء، وتغيرت آمال المجتمع وعلاقات المدرسة بعالم الشغل. ولم يعد بمقدور المدرسة أن تشتغل بنفس طريقة اشتغالها عند بداية القرن: لذلك أصبح من الضروري ابتكار مرامي جديدة، وأنماط فعل جديدة، وطرق جديدة في التربية دون أن يعني هذا إقصاء منهجيا للأشكال القديمة القابلة للاستعمال... ولا يمكننا اليوم، بأي حال من الأحوال، أن ننكر أو نتجاهل ما يقدمه كل من العلم المعاصر والتطبيقات التربوية والبحث العلمي في المجال التربوي من إسهامات.
مقدمة: الوضعية الخاصة للتربية :
1 - للــ"معارف" في مجال (مجالات) التربية وضعية جد خاصة. إننا إزاء وضعيات لها، على الأقل، أربعة ينابيع معرفية:
المنبع الأول له صلة بشكل التفكير الفلسفي والتاريخي الخاص بالمرامي والأهداف التربوية. منبع ضروري وذو أهمية قصوى، ولهذا يعرف حاليا تجددا ملفتا للنظر ببعض الدول الناطقة باللغة الفرنسية.
بينما يتصل المنبع الثاني بالوضعية الحالية التي تولدت عن وجود مجموع وسائل الاتصال (صحف، مذياع، تلفاز، بنوك المعلومات وغيرها…) وعن وجود المنظمات العالمية الكبرى (اليونسكو على الخصوص)، التي قامت بتجميع ومراكمة عدد هائل من المعلومات المرتبطة بمجموع القضايا التربوية المطروحة على المستوى العالمي. وتشكل إمكانيات الطبع والنشر الحديثة عنصرا جديدا في بناء هذه المعرفة الوثائقية، التي سنعود إليها بالتحليل خلال هذه الدراسة.
أما المعرفة التي تتأسس انطلاقا من الـ"تجربة اليومية" للمربي أو، باصطلاح أكثر علمية (وأكثر حذلقة)، المعرفة ذات طابع النهج العلمي (praxéologique) فتشكل المنبع الثالث المتميز بغناه. لكن، وللأسف، غالبا ما تضيع "تجربة" المدرسين هذه دون الاستفادة منها، لكونها تظل مرتبطة بالشخص دون أن يطلع عليها أحد. وقد عملت الدول الشرقية على تصحيح هذه الوضعية عن طريق خلق الـ"أكاديميات البيداغوجية"، التي من بين مهامها تجميع، وبناء ونشر المعارف المتأتية عن التطبيق العملي للمدرسين.
أخيرا، يتكون المنبع الرابع من معرفة ذات نمط علمي، نتجت عن البحوث الدارسة للوضعيات التربوية وعما قدمته الدراسات من مساهمات علمية في التاريخ، والبيولوجيا، وعلم النفس، والاقتصاد، وعلم الاجتماع والسياسة… وهي مجالات تقدم فرصة إغناء تفسير وشرح الوضعيات التربوية. إن ظهور وتطور البحث العلمي في التربية (أو حول التربية) يشكلان واقعة جديدة في تاريخ التربية، ويطرحان، في صورة جديدة، مسألة العلاقات الكائنة بين كل من المعارف النظرية، والمعارف العلمية والمعارف الخاصة بالفعل، وكذلك مسألة مساهمة كل واحدة منها.
غايتنا إذن أن نكتفي بفحص الخصائص المميزة للأنماط المعرفية الثلاثة الآتية: معرفة النهج العلمي praxéologique، المعرفة العلمية والمعرفة النظرية، قصد دراسة العلاقات التي توجد -أو من المفروض أن توجد- بينها. ليس الغرض إذن جعل هذه المعارف متقابلة ولا ترتيبها حسب أهميتها، وإنما فقط تحليل الوقائع الحالية. سيؤدي بنا هذا، بطبيعة الحال، إلى دراسة حجم استفادة كل نمط معرفي من الآخر، والنظر فيما ستكون عليه التطورات المرجوة على مستوى التطبيق التربوي اليومي وعلى مستوى تكوين المدرسين.
2 - علينا أن نشير أيضا إلى مسألة تعدد معاني كلمة "التربية" تعددا يحيلنا خلال نقاشنا، إلى ميادين و/أو إلى حقائق مختلفة لا تملك نفس النظام. وهكذا أمكننا التمييز بين:
-التربية-المؤسسة،
-التربية-الفعل،التربية-العملية،
-التربية-المحتوى،
-التربية-المنتوج، التربية-النتائج.
من المؤكد أن العلاقات المتواجدة بين المعارف النظرية، والمعارف العلمية والمعارف التطبيقية، بالنسبة لكل ميدان من هذه الميادين، ليست تماما من نفس الطبيعة. وسنقتصر خلال هذه الدراسة على جانب "التربية-الفعل" وحده.
3 - وقبل أن نتقدم أكثر في دراستنا، نشير إلى خصوصية تميز ميدان التربية، حيث لا يمكن أبدا عدم الأخذ بعين الاعتبار ما يسمى بـالـ"مرامي" التربوية. تنتج عن هذه الوضعية علاقات متميزة تجمع بين الـ"فعل" (مناهج، تقنيات)، والـ"نظرية" والـ"بحث العلمي"، ما دامت مرامي نفس الوضعية التربوية قادرة على أن تتنوع بشكل كبير وأن تؤدي إلى مناهج وتقنيات مختلفة.
وعليه فسنحاول خلال هذه الدراسة الإجابة على الأسئلة التالية:
-ما هي مستويات التطبيق، والتربوي منه على الخصوص؟
-كيف تتكون الـ"معرفة التطبيقية" لدى المربي؟
-ما هي مميزات الـ"معرفة العملية" وكيف تنشأ؟
-ما المقصود بالـ"معرفة النظرية" في المجال التربوي؟
-ما هي العلاقات الكائنة بين كل هذه الأشكال المعرفية؟
المعرفة التطبيقية لدى المربي:
1 - مستويات التطبيق:
كلمة "تطبيق" كلمة جد فضفاضة، تستند إلى أشكال ومستويات جد متنوعة من النشاط الإنساني، مما يستدعي تدقيقها وتمحيص ما نسميه بـ"مستويات" التطبيق.
المستوى الأول الذي سندعوه المستوى الـ" إندفاعي" (إحالة إلى المرحلة الـ"إندفاعية" لفالون)، يكون فيه الفعل استجابة فورية إزاء المؤثرات الداخلية أو الخارجية عن المحيط. فعندما لا يستطيع المدرس التحكم فيما يحدث داخل القسم، فإنه "يقوم بأي تصرف" في محاولة منه للتغلب على الوضعيات المواجهة. في حالات قصوى كهذه، يعجز الفرد على تعليل سبب تصرفه أو استجابته بهذه الطريقة؛ فالاستجابة الـ"إندفاعية" نادرا ما تناسب المثير أو تؤدي إلى حدوث خبرة تعلمية.
في المستوى الثاني يكون التطبيق استجابة تلائم إلى حد ما الواقع الخارجي، ومبنيا إلى حد ما على ما سبق تعلمه، إلا أنه يظل منغلقا على نفسه حتى وإن كان فعالا في استجابته لمتطلبات الوضعية. فالفرد ينشغل بالوضعية وبالحاجة إلى الاستجابة إليها، فيشوب سلوكه نوع من النمطية، والتكرارية. لنا مثال عن الحالة القصوى والشبه مرضية في شخصية شارلي شابلن وقد كلف، في سلسلة عمل بالمعمل، بحزق boulonner الأجزاء التي تمر أمامه (انظر فيلم "الأزمنة الحديثة"). أما على المستوى التعليمي، فلنا مثال في حالة المدرس الذي يلبي متطلبات المؤسسة المدرسية بتدريس نفس المستوى بنفس الطريقة لسنوات عديدة دون أن يحدث أدنى تعديل عليها. قد يحالف بعض النجاح فردا من هذا القبيل لفترة محدودة، دون أن يظهر قدرا من الإبداع. يمكن القول، بلغة متداولة، "إن هذا المدرس ينفذ بأمانة بعض الأوصاف".
أما في المستوى الثالث فليس التطبيق استجابة تلبي متطلبات الوضعية فحسب، بل إنه بالنسبة للفرد، بحث عن الحل -الخلاق بطبيعة الحال- الذي يوافق المشاكل التي تعترضه في واقعه اليومي. إنه، بذلك، مرتبط ارتباطا وثيقا بنوع من النشاط السيكولوجي المكثف من أجل معرفة أو الوقوف على المشاكل المطروحة، وتحليل عناصر الوضعية، والبحث عن حل عوض الاكتفاء بتطبيق الوصفات المعروفة قبل (أو، إن تعلق الأمر بوصفة، القيام بها عن وعي تام وقدرة على تبريرها). من المفروض أن تكون هذه الحالة حالة كل المربين والمكونين داخل أقسامهم وبين مجموعاتهم. فلكل وضعية تربوية مشكلها أو مشاكلها الخاصة، ومن الصعوبة بمكان تخصيص حلول بيداغوجية لكل وضعية تربوية، سواء أكانت هذه الحلول منتظرة أم محددة سلفا: فالبحث المتواصل عن الحلول الأكثر ملاءمة لتجاوز الوضعيات المواجهة هو بالضبط ما يجب على المدرس أو المكون القيام به.
2 - كيف تتشكل المعرفة الإمبريقية؟
سنعيد النظر في مستويات التطبيق، المشار إليها سابقا، من زاوية مغايرة وذلك لمعرفة الطريقة التي تتكون بها "المعرفة الامبريقية" لدى الممارس.
أ - إن الدراسة الممحصة للمسألة تستوجب استحضار كل ما أنجز من دراسات حول "نظريات الفعل" من قبل مختلف الباحثين. سيتطلب الأمر دراسة مطولة جدا، تبدأ بأرسطو، وتمر بكانط وعقلـ (ـه) الخالص، فماركس وتحليلاته لـ"شروط وجود" المجتمعات، فبولندل Blondel و"نظريتـ (ـه) في الفعل"، وصولا، عبر قفزات كبيرة، إلى علماء الاجتماع المعاصرين من أمثال بورديوه ومفهومه في الـ"حس التطبيقي". في الجانب السيكولوجي لن ننسى مدرسة الاتحاد السوفيتي سابقا (فيجوتسكي، ليونتييف، لوريا)، وجون ديوي من العالم الأنكلوساكسوني، ومن العالم الفرانكفوني أسماء مثل جان بياجيه، إيدوارد كلاباريد، وعلى الخصوص هنري فالون في مؤلفه الأساسي: "من الفعل إلى التفكير".
ب - كل الأفعال تولد معرفة، ما عدا الأفعال الإرادية والحركة النمطية (وفيها نقاش). والمدرس يكتسب ما نسميه "تجربة". والتجربة، كما نعرفها، هي: "مجموع المعلومات، والمعارف connaissance، والمواقف التي اكتسبها الفرد خلال حياته عن طريق الملاحظة التلقائية للواقع ولسلوكاته اليومية، والتي تندمج مجتمعة في الشخصية بشكل تدريجي". باصطلاحات عالمة أكثر سيتحدث بيير بورديوه عن "استدخال الماهو خارجي Une intériorisation de l'extériorité ". عندها نقول إن المدرس قد اكتسب من الأقسام الابتدائية تجربة قائمة على دراية واسعة بها، وذلك في حالة ما إذا كان قد درس بها سنوات طويلة وطبق نشاطا بيداغوجيا من نمط المستوى الثالث أو الثاني.
ومع التقدم في العمر، تنمو، بشكل طبيعي، هذه التجربة المكتسبة"، وتتنوع بتنوع الوضعيات التي خبرها وعاشها الفرد. تجربة تختلف من فرد لآخر وترتبط بشخصيته: إذ يحتاج البعض لوقت قصير، والبعض الآخر لوقت أطول لتكوين "تجربة" خاصة. وفي كل الحالات تظل هذه التجربة شخصية جدا وصعبة -إن لم نقل مستحيلة- النقل.
تعتمد هذه "التجربة المكتسبة" بالأساس على حدس المدرس و"فطنتـ"ـه، دون أن يكون للإجراءات السيكولوجية أو العلمية الخاصة أي تدخل واضح؛ وبتعبير آخر، غالبا ما تكتسب هذه التجربة بطريقة شبه لا شعورية، ولا تمر إلى الآخرين بشكل تلقائي. فعادة ما يعجز الفرد عن تحليل سبب وكيفية حصوله على هذه الطريقة في الفعل أو تلك الطريقة في التفكير. وعلى الرغم من ذلك تترجم هذه الطريقة في سلوك وعادات الفرد وشخصيته ، لتصبح له طبيعة ثانية. غير أن اكتسابها بطريقة لا شعورية يجعل نقاشها يقل بشكل تدريجي، وتقل بذلك مراقبتها الواعية.
نشير من جهة أخرى إلى أن هذه التجربة تكون إما غنية جدا، وإما جامدة تماما وإما خليطا بينهما. فهي غنية إذا حملت المدرس على التفكير فيما يقوم به، وكانت المواجهة بين رغباته، وبين متطلبات الواقع تؤدي إلى جدل ثاقب يدفع إلى التأمل. وهي جامدة إذا ما اعتقد المدرس، دون تمحيص، أن ما يقوم به فعلا حسن لا يتطلب أي تعديل أو تطوير. في هذه الحالة، يجعل التطبيق الممارس، تدريجيا، يقمع تماما بالمحاولات الأولى، فيحول بينه وبين كل أشكال التأمل وأية محاولة للتحسن. وعليه، فإذا كانت الحالة الأولى تعرف التطور والتحسن انطلاقا من تحليل الإخفاقات، يتم في الحالة الثانية إحالة حالات الفشل -خاصة تلك التي يقع فيها التلاميذ- على عوامل خارجية: اكتظاظ القسم، المستوى العقلي للتلاميذ…. فيصبح المدرس سجين ممارسته التطبيقية. نضيف في النهاية أن المدرسين الذين لهم سلطة داخل القسم، ودأبوا على اعتبار أنهم "على صواب دوما"، ينتهون إلى الميل نحو "الانغلاق دون التجربة imperméable à l'expérience"، حسب تعبير ليفي ستراوس.
ج - التكيف مع الوضعية ومع الأفراد ومع الشروط الآنية خاصية كل فعل يستحق حقا صفة التربوي. إننا لا ننكر أبدا عمل نفس الشيء، والوضعيات التربوية لا تتشابه تشابها مطلقا: إذ الزمن يجري بشكل غير متجانس، فيتغير التلاميذ بفعل التقدم في السن، ويتبدل المدرسون. ولقد أخبرنا هيراقليط، منذ زمن بعيد، أننا: "لا نستحم دوما في نفس النهر". إذ ذاك تبرز، في الحالات المثلى، تغيرات "إمبريقية" على التكيف، تغيرات تقع على العمليات التي كانت تبدو للمربي سليمة، كما تقع على ما يجعله يعتقد في السير الأفضل للأمور. حينما تحدث هذه التغييرات عن وعي، فلن يتردد المدرس عن إعلان نيته في البحث عن أحسن السبل لأداء عمله؛ له الحق في هذا ما دام أن هناك مجهودا لتغيير أو تحسين الفعل التربوي. غير أن اصطلاح الـ"بحث" هنا كما هو واضح ينتمي إلى مجال هذه الـ"بحوث الإمبريقية"، التي تشابه طبيعتها الإبيستيمولوجية طبيعة البحوث العلمية التي سنتناولها بالدرس فيما سيأتي؛ إذ يتحدد الهدف الأساسي من "الـبحث الإمبريقي"، في المقام الأول، في تعديل الفعل الذي يمارسه المدرس على التلاميذ، الأمر الذي لن يخلع عنه أهميته بالنسبة للتطور البيداغوجي، ولا القيمة التي يمثلها بالنسبة للتوازن النفسي ووعي الفرد بذاته. وعلى العموم، فما يكون "تجربة" المدرس، في جزء كبير منها، هي نتائج هذه المحاولات، موفقة كانت أم فاشلة، علما أن لهذه "التجربة" ارتباطا وثيقا بحياة المدرس وفعله والظروف التي يختبرها (تلاميذ، مؤسسات، زملاء…). وفي أفضل الحالات، يعطي الاندماج الأحسن لمجموع الشخصية سمات خاصة يمكن التعرف عليها بسهولة وتجيز الحكم دون قيد بـ"أنه(ـها) مدرس(ـة) مجرب(ـة) أو أن له(ـها) تجربة غنية".
د - من الأهمية بمكان الإحاطة بصيغ تشكل هذه "التجربة"، وذلك لقدرة هذه الأنماط على التمييز بين المدرسين ولتوضيح نوعية العلاقات الممكن قيامها بما سنسميه بـ"التجربة العلمية". وبالفعل يمكننا ملاحظة وجود مستويات لتشكل هذه "التجربة"، والتي سنفصل فيها القول أدناه.
من الممكن، في مقاربة أولية، التمييز بين عمليات تأخذ المدرس إلى ثلاث وجهات جد متباينة من حيث النتائج:
-إلى تجربة جامدة Sclérosante؛
-إلى تجربة مغتنية؛
-إلى تجربة من النمط العلمي.
في الحالة الأولى يكون التكيف مع الوضعيات الجديدة منعدما، حيث تحدث الأشياء تماما كما حدثت أول مرة، دون إمكانية تسجيل أي تغيير وإقصاء كلي للتكيف، فيعيد المدرس فعل ما فعله في السابق دون ملل ولا كلل. إن التجربة المهنية -وأيضا المعيشية بكل تأكيد- محصنة بدرع حجري يتقوى بشكل تدريجي، تتزايد معه استحالة حدوث أي تغير أو تكيف، إراديا كان أم مفروضا. في وضعية قريبة من هذه، وهي قليلة نسبيا، يحدث بعض الأفراد أحيانا بعض التغييرات تنفيذا لرغبة تلبي حاجة مرضية في التجديد، دون أي استفادة من التجربة السابقة في بناء التجربة الجديدة. في هذه الحالة أيضا لا تقوم التجربة الحالية بتعديل أو تقويم للتجربة المكتسبة ولا تؤدي، بالتالي، إلى أي تغيير سيكولوجي لدى الفرد.
أما في الحالة الثانية، وهي الأكثر شيوعا لحسن الحظ، فالوعي بأشكال النجاح والفشل، وبالخصائص المتجددة للوضعيات والشركاء (تلاميذ، زملاء، آباء…) يحمل الفرد على أن يسائل تجربته ويطرحها للنقد باستمرار، وأن يصحح ممارسته وأشكال علاقته بالعالم الخارجي. لا يتعلق الأمر هنا بإجراء من النمط الـ"علمي"، وإنما إجراء من نمط فينومينولوجي يعد عاملا من العوامل الأساسية للإثراء النفسي لدى الفرد. في هذه الحالة، غالبا ما نجد مدرسين لا يقفون عند استثمار تجربتهم الحالية فقط، وإنما يعملون على إغنائها بالاستفادة من تجربة الآخرين، إما عبر القراءة وإما عن طريق مشاركتهم في العمليات البيداغوجية التي تعتبر إمكانية تبادل التجارب الشخصية من بين أهدافها. فالتجربة المكتسبة حسب المعنى الأقرب إلى الاصطلاح، تجربة "مغتنية".
في مستوى أعلى، يمكن لهذا التكيف، وهذه التعديلات أن تحدث تبعا لشروط أكثر موضوعية، متمثلة في الاهتمام بالمراقبة الموضوعية للنتائج، أي بالتقييم (حتى وإن ظل هذا التقييم ذا طابع كيفي). وهكذا يعمل المدرس على ملاحظة وتقييم وقياس النتائج الجديدة التي يسجلها مع تلامذته، ومقارنتها بالنتائج السابقة… فلم يعد يكتفي بذاك الشعور الغامض، أو بالاقتناع القائم تقريبا على الحدس، أو بالانطباع؛ بل أصبح يبحث عن سبل جعل أحكامه أحكاما قائمة على أسس أكثر متانة وموضوعية. ليس ضروريا أن يستعمل المدرس، في حالات كثيرة، الـ"أدوات علمية" متخصصة، وإنما يكتفي باستعمال وسائل المراقبة والتقييم التي تدخل في نطاق عمله، بحيث يمكن القول إنه يشق طريقه نحو "تجربة من النمط العلمي". وهذه الطريقة في تحليل النتائج قد تؤدي، في حالات معينة، إلى نوع من التنسيق بين المدرسين للقيام بمقارنات بين مناهجهم وبين النتائج التي يتوصلون إليها. وهنا أيضا يمكن للقاءات التي تتم خلال العمليات البيداغوجية أن تلعب دورا جد إيجابي. على أن من أهم مميزات هذه الـ"تجربة من النمط العلمي"، إمكانية نقلها إلى الآخرين، نظرا لما تبذله من جهد في شرح وتوضيع معاييرها في الحكم، وفي استعمال وسائل تقييم من الممكن تقديمها، ونقلها، تحليلها ومناقشتها.
لنشر أيضا إلى أن تطبيق المدرس للمستوى الثالث من الممارسة البيداغوجية، سيجعل تلامذته يعتادون موقفا علميا قريبا من موقف الدارس، كما سنرى فيما بعد.
على هذا النحو تتشكل "معرفة المنهج العلمي" هذه، متميزة بذلك عن الـ"معرفة العلمية" التي سنقوم بمعالجتها بعد حين. من الملاحظ أن هذه المعرفة، في مجموعها، غير متجانسة سواء على المستوى الفردي أو على مستوى مجموع هيئة التدريس. فمن الصعب القول، عن فرد واحد إن "تجربتـ"ـه من هذا النمط أو ذاك فحسب، بل من البديهي أن تكون تجربتنا الشخصية مزيجا من الأنماط الثلاثة، التي سبق تقديمها موجزة، مع سيطرة كبيرة نسبيا لنمط على الأنماط المتبقية. هنا يبرز سؤال على جانب كبير من الأهمية، لكنه خارج عن نطاق هذا الفصل: كيف يمكن للتكوين الأصلي، وللتكوين المستمر على الخصوص أن يساهم في تغيير بنية "تجربتـ(نا) الشخصية"، وبأية طريقة؟ إنها مسألة أخرى كما يقال.
حول البحث العلمي في المجال التربوي:
إذا كان البحث العلمي آخر مستجدات العقل البيداغوجي، فلقد أسس "معرفة" ذات طبيعة إبيستيمولوجية مغايرة، الأمر الذي سنعمل على توضيحه الآن:
1 - تختلف أهداف الـ"بحث العلمي" كلية عن أهداف الـ"بحث الإمبريقي". فإذا كان الهدف الأساسي من الـ"بحث الإمبريقي" تقويم الفعل، كما سبق قوله، فالهدف الأساسي من الـ"بحث العلمي" البحث عن "تفسير" و"فهم" (بالمعنى الديكارتي، لا الفينومينولوجي، للإصطلاح) الذي يحدث أثناء الوضعيات التربوية، والبحث ضمنها عن أسباب وكيفيات حدوثها، ثم تحليلها. آثار هذا الفعل سيتم استخراجها من خلال النتائج، مما يعني وجود مدة زمنية، قد تكون طويلة أحيانا، تفصل البحث عن الفعل. وبالفعل فالهدف، كما يقول بويز R. Buyse الباحث التجريبي، هو اكتشاف و/أو البرهنة على القوانين التي تعمل الوضعيات التربوية حسبها (مع أخذ كلمة القانون هنا بالمعنى العام أي إبراز التنظيمات، والعلاقات النوعية والكمية).
2 - خطوات البـ"بحث العملي" مختلفة كثيرا عن خطوات الـ"بحث الإمبريقي". فعلى عكس المربي، يعود الباحث نفسه، بالدرجة الأولى، على تنصيب مسافة تأمل بينه وبين موضوع البحث. أما المدرس فمكانه داخل قسمه، يندمج مع كل ما يقع داخله، ويتفاعل وجدانيا وعلى الأخص، بشكل آني مع ردود أفعال تلامذته. في حين يتعين على الباحث المجرب اتخاذ موقف مغاير: أن يحاول قدر الإمكان أن لا ينصهر بشكل عاطفي في الوضعية، ويحاول عيش التجربة وكأنه خارج الوضعية، مما تتولد عنه صعوبات إبيستيمولوجية وأخلاقية مهنية في المجال التربوي. إنه، إذا صح التعبير، تعارض مشابه للتعارض الموجود بين الحدس البرغسوني والحدس الديكارتي.
3 - قبل البدء في الدراسة، والقيام بالتجربة، يتعين على الباحث البدء بتحليل موضوعي، شامل ودقيق للوضعية بغرض استخراج المتغيرات المحددة لها وجردها جردا شاملا. لا يطالب المدرس بإنجاز هذه الإجراءات خلال "بحثـ (ـه) الإمبريقي"، إذ أنه يكتفي، عموما، بالانطباعات العامة التي تسببها له الوضعية والتلاميذ، ويكتفي في إصدار حكمه على المعطيات الواضحة والخارجية التي تسهل ملاحظتها. أما الباحث العلمي، فغالبا ما يتوجب عليه الشروع، في مرحلة أولى، في إجراء بحث أولي يبرز فيه ويحصي المتغيرات المحددة للوضعية. ولا تصبح التجربة قابلة للتنفيذ إلا حين ينجز هذا العمل ويصبح من الممكن، أثناء بلورة تصميم التجربة، تحديد المتغيرات المستقلة، ومعاينة كيفية تبدل المتغيرات التابعة تحت تأثير عامل التجربة. وعليه فالـ"تجربة الإمبريقية" للمدرس تجربة آنية مباشرة، في حين تحتاج الـ"تجربة العلمية" إلى وقت أطول.
4 - أثناء القيام بدراسة علمية من الضروري تجميع الملاحظات والمعطيات المباشرة المتاحة تجميعا شاملا قدر الإمكان. فالعالم الباحث يعلم حق العلم أن عدد المتغيرات في كل وضعية تربوية، ولو كانت "بسيطة"، يكون جد مرتفع حتى لا نقول لا نهائي؛ وعلى الرغم من أننا لا نعرف بشكل مقنع إن كان التمييز بين المتغيرات الأساسية والمتغيرات الثانوية مناسبا بالفعل، إلا أنه يبقى أمرا ضروريا. أما المدرس فليس له سوى تجميع بعض وجهات النظر: ردود أفعاله وأفعال تلامذته، وأحيانا ردود أفعال الإدارة والآباء. إن تفسير النتائج العلمية المحصل عليها تفسيرا سليما يقتضي الأخذ بعين الاعتبار عددا كبيرا من المتغيرات؛ نسيان واحد أو أكثر من المتغيرات قد يؤدي إلى تغيير كلي في تفسير النتائج، الأمر الذي يسهل تقديم أمثلة عنه.
5 - يضم البحث العلمي، على اختلاف ميادينه، مبدأين أساسيين، هما: مبدأ الشفافية، ومبدأ القابلية النسبية لإعادة التجربة. فمن الضروري أن تكون كل الخطوات التي يقوم بها الدارس واضحة ومقبولة، ما دامت شفافية مجموع هذه الإجراءات هي أولى مميزات كل عمل علمي. بالمقابل ليس بمقدور المدرس دوما تفسير سبب قيامه بهذا الإجراء أو ذاك، لاعتماده على حدسه دون أن يكون قادرا دوما على تبرير وتفسير سبب نهجه تلك الخطوات. أما المبدأ الثاني الصعب، إن لم نقل المستحيل، أعني التحقق بشكل مضبوط ضمن وضعيتنا التربوية، فهو مبدأ قابلية التجربة للإعادة: إذ من الضروري أن تكون التجربة قابلة لأن تكرر حتى تؤكد أو تلغى. نعلم، بالاتفاق مع هيراقليط، أن الشروط لا يمكنها أن تكون دوما متماثلة بشكل دقيق، إلا أن المناهج الحديثة في تحليل النتائج تسمح لنا بإبراز العوامل التفاضلية وأهمية كل واحد منها، مما يمكننا من إيجاد المجموعات المتشابهة نسبيا التي يمكن إجراء التجربة عليها من جديدوضعية المدرس تختلف اختلافا جوهريا: فمن غير الممكن أن يعيد الوضعية التربوية التي عاشها هو وتلامذته بدقة تامة، لكون الفعل التربوي فعلا محددا في الزمن، ولأن كل إعادة تعد، في حقيقة الأمر، وضعية جديدة.
6 - أحيانا يتعذر على المدرس استيعاب مناهج تحليل النتائج المقنعة التي يستعملها الباحث. فإذا أخذنا، مثلا، دراسة إملاء تلاميذ قسم معين، نجد أن المدرس يصحح التمارين، ثم قد يعمد إلى تحليل الأخطاء المرتكبة أو أنماط معينة منها، وتحليل أشكال بسيطة من العلاقات الكائنة بين التلاميذ وبين الأخطاء التي ارتكبوها. إنه عمل طويل لا يمكن أن يشمل جميع التمارين، الواحد بعد الآخر. أما الباحث فباستعماله الوسائل المعلوماتية يمكنه بسهولة كبيرة القيام بنفس العمل، بل ويضيف إليه الارتباطات الإحصائية بغرض إبراز أوجه أسباب الخلل، وبحث العلاقة الممكنة بين الأخطاء المرتكبة وبين عوامل أخرى من قبيل المستوى اللغوي، والمستوى الفكري، والفئة الاجتماعية واللغوية للتلميذ، ودور عامل الجنس، ورتبة الطفل بالنسبة لإخوانه في الأسرة… وهكذا تنضاف إلى النتائج الفردية سلسلة معلومات تسمح بتفسير سليم للأخطاء المرتكبة، وبالتالي، استنتاج ما يمكن أن يفيد، بشكل عام، جانب الفعل التربوي.
7 - بحث الدارس عن التفاسير الممكنة مرحلة أساسية من مراحل البحث: فالنتائج، الكيفية منها والكمية شيء، والدلالة التي يجب إعطاؤها لها شيء آخر. إن النتيجة من حيث هي كذلك فارغة: إذ يجب أن نعيد تحديد موقعها إزاء الوضعية أو الوضعيات التي حصلت ضمنها، وأن تقارن مع نتائج أخرى غيرها لتكون لها دلالة مقبولة ومعترفا بها من قبل جميع الباحثين والممارسين. تتطلب هذه المرحلة كثيرا من روح "الدقة" "de finesse" esprit كما قال باسكال، ومعرفة كاملة بالوسط الذي حصلنا فيه على تلك النتائج، مما يجعل التعاون بين المدرسين والباحثين أمرا ضروريا في هذه المرحلة من البحث. سيؤدي بنا هذا إلى التساؤل فيما بعد عن نوعية العلاقة الكائنة، أو التي يمكن أو يجب أن تقوم، بين هذه الـ"معرفة من نمط النهج العلمي" وبين الـ"معرفة من النمط العلمي". بعبارة أخرى. ما هي الجوانب التي يمكن لهذين الشكلين التعاون فيها بشكل ثنائي، وما نوع الإفادة التي يمكن للباحث أن يقدمها للممارس؟
ملاحظات حول الـ"معرفة النظرية" في المجال التربوي:
اصطلاح الـ"نظرية" في المجال التربوي اصطلاح غير واضح بما فيه الكفاية لكونها تنبني على صرح حقائق تنتمي لمستويات تتباين فيما بينها تباينا كليا رغم العلاقات التي تجمعها.
1 - التنظير المؤسساتي، البرامج، التوجيهات الرسمية والتطبيق.
غالبا ما يقارن المربون ممارستهم اليومية بالنصوص الرسمية (التوجيهات الرسمية)، وبالبرامج المقترحة من قبل القانون. فالـ"نظري" هو كل ما يتم اقتراحه، ما يتم فرضه، الشيء الذي يعطي الإحساس بضعف الصلة بين النصوص الوزارية والممارسة اليومية. وكلما ذكر أحد المسؤولين بالتوجيهات الرسمية اعتبره المربي "منظرا".
2 - تشمل المعرفة النظرية مجموع التصورات الفلسفية-التاريخية التي سبق لنا الحديث عنها في بداية هذا الفصل. إنها مجموع ما تراكم من تحاليل فكرية ونظريات وتعاليق، سواء قدمها المربون والفلاسفة، أوقدمها مختصون آخرون ينتمون حاليا لحقل علوم التربية: اقتصاديون، ديموغرافيون، اثنولوجيون، سوسيولوجيون… غير أن فلسفة التربية وتاريخ التربية، على الخصوص، يشكلان معارف نظرية ذات أهمية قصوى، رغم أنهما يبدوان أحيانا بعيدين عن اهتمامات المدرسين العملية داخل القسم، واهتمامات المكونين بالميدان.
3 - تأخذ المعرفة النظرية أيضا شكل إيديولوجيات بيداغوجية وتترجم في مبادئ تيارات تربوية كبرى: ونتيسوري، ديكرولي، كوسيفيه، فرينيه و G.F.E.N… وعلى الرغم من أنها تنادي بمبادئ متقاربة، إن لم نقل مشتركة، وأنها تعترف بما نسميه بالـ"تربية الحديثة"، فإن لكل تيار مذهبه، وخطواته الخاصة، ومناهجه وتقنياته.
4 - تبقى، أخيرا، المعرفة النظرية التي تنحدر عن التطبيق والتي لها صلات قوية بما سميناه بالـ"المعرفة الفعل". ففي حالة تطبيق ممارسة تربوية من المستوى الثالث (انظر قبله)، لا تغتني تجربة المربي بالمعارف فحسب، وإنما يتبلور قبس تفسير نظري للتجربة المكتسبة.
أشكال العلاقات بين التطبيق، والنظرية، والبحث والتكوين:
1 - تتلخص الفكرة العامة التي ننطلق منها في تبيان أن الـ"معرفة الإمبريقية" والـ"معرفة النظرية" والـ"معرفة العلمية" لا يجب أن تكون متقابلة ولا متراتبة: فلكل واحدة منها مبررات وجودها، وأهميتها وضرورتها. لا يجب على أي منها إقصاء الأخريات، ولا أن يكون لها امتياز عليها. لكن هل يتعلق الأمر فقط بتعايش ساكن؟ على العكس من ذلك نعتقد أنه يتعلق بتعاون دينامي، يخدم بالدرجة الأولى مصلحة التلاميذ والمدرسين والباحثين والمجال التربوي. وسنعمل على توضيح هذه الفكرة بشكل موجز، ما دام التحليل الشامل للعلاقات الكائنة بين المجالين تتطلب لوحدها فصلا طويلا جدا.
أ - إن الـ"معرفة الإمبريقية" بالضرورة معرفة متخصصة وموضعية، في حين أن الـ"معرفة العلمية" تطمح لأن تكون معرفة عامة. والحال أن كل تفسير أو فعل، سواء في علوم التربية أو خلال الممارسة التربوية، لا يقبل أن يكون خاصا فقط، أو عاما، فقط. فمن الضروري أن يمتح تكوين فرد ما من ينبوعي الفردانية والكونية. نفس القول يصدق على تفسير نتائج البحث العلمي: إذ عليها أن تهتدي إلى الجانب المتفرد والجانب المشترك مجتمعين لدى الكثير من مجموعات الأفراد؛ غناها يكمن، بالضبط، في هذه الجدلية الدقيقة التي تربط بين هذين النمطين من المعرفة. لذا نعتقد أن هذين النمطين لا يغتنيان داخل حصون نقائهما وقيمتهما وإنما خلال تواجههما.
ب - ومع ذلك، لا بد من التساؤل بدقة كبيرة عما يمكن للبحوث العلمية في المجال التربوي أن تقدمه من مساعدة لتحسين أداء المربي، وبالتالي، لإغناء الـ"معرفة المتعلقة بالتطبيق العملي"؟ أهمية هذه النقطة تكمن في كونها تبرر جزئيا، وجود علوم التربية.
-الوصف الدقيق والموضوعي لما يجري داخل وضعية تربوية، وإمكانية نقل صادق وأمين لما يجري بالفعل كي يراه المدرس (مواقفه، مواقف تلامذته، مجموع العلاقات، اتصالات…) يشكلان واحدا من العناصر الأساسية التي تسمح بتشكل الوعي لدى كل مربي في حالة ما إذا لم يكن يرغب في العمل كالأعمى في الظلمة. ودون إصدار أي حكم قيمة على التصرفات الملاحظة، بمقدور الباحث أن يساعد المدرس على الوعي. بواقع عاشه دون أن يتمكن من ملاحظته بدقة، لكونه عنصرا من عناصر الوضعية النشيطة. ومفعول المرآة (انظر أعمال فالون حول مرحلة "المرآة" في نمو الطفل مثلا) مفعول مفيد دوما لمعرفة الذات. فكل المكونين يعرفون أهمية التسجيلات المنجزة داخل الأقسام وما ينسج حولها من تعاليق من قبل كل من المدرسين والباحثين مجتمعين.
-كما سبقت الإشارة إليه، من الضروري المرور من الوصف البسيط إلى محاولة ملامسة تفسير لما يقع وفهم أسباب الفعل التربوي، ودينامية الوضعية، وبروز التناقضات، والصعوبات أو التسهيلات، وكذا فهم أسباب عدم تحقق الأهداف المتوخاة. هكذا يمكننا، بطبيعة الحال، المساهمة في تحسين أداء المدرس بالانطلاق من نشاطه الخاص. كما يمكن للباحث وللمدرس على حد السواء القيام، من جهة أخرى، بمقارنة الوضعيات مقارنة موضوعية والوصول إلى نوع من التعميم، انطلاقا من التحديد الموضوعي لمتغيرات الوضعية وللمؤشرات المرتبطة بها التي تسمح بوصفها.
-من الانعكاسات المباشرة لهذا الإجراء البحث عن تفسير السلوكات وفق تصور أكثر شمولية والانتهاء إلى منح الوضعية معنى جديدا (مثلا إدخال عناصر تاريخية أو سياسية أو إثنولوجية مرتبطة بالوضعية). من شأن هذا إعادة طرح مشكل المرامي الدقيقة والمحددة ورسم الحدود التي لا تحتاج بعدها إلى تعديل. فالتعارض بين ما يخططه المربي من مشاريع، وبين تحقيق فعله التربوي المتوخى، وبين ما يحققه التلميذ من نتائج، قد يبيح التساؤل من جديد حول بعض المرامي والأهداف المرجوة سواء من طرف المعلم، أو من طرف التعليمات الرسمية.
-الوصف الموضوعي الذي يرافق البحث عن الدلائل والمؤثرات المناسبة التي تسمح بهذا الوصف، والاهتمام بتقديم تفسير موضوعي يشكلان عونا واضحا ومثمرا لتقييم الوضعية التربوية بشكل أكثر دقة. فعلاوة على ما يعرفه التقييم من مشاكل في الوقت الحاضر، يعتبر التقييم "الإجمالي" القديم متجاوزا بشكل كبير، ومن الضروري البحث عن أشكال جديدة لكل تقييم يتغيى الموضوعية والسداد.
-بحوث من هذا القبيل تعتبر ضرورية خاصة إذا تعلق الأمر بمسألة نقل المعرفة البيداغوجية، ومن ثمة، بمشكلة تكوين المدرسين. ففي الوقت الراهن لا يمكن أن ينحصر تكوين المدرسين على الخطب الفضفاضة حول الوظيفة التربوية أو على تقديم المناهج والتقنيات والإجراءات المتعامل بها. إذا أردنا أن يكون مربي الغد، بالفعل، فردا قادرا على أن يفكر في عمله وفق طرحات جديدة، فمن الضروري تعويده على تحليل الفعل الذي يقوم به بغرض تجاوزه بشكل مستمر، والسماح له بإيجاد حلول تتجدد بتجدد المشاكل التي تعترضه -وستعترضه مستقبلا-
2 - من الممكن معالجة المسألة بشكل آخر، وذلك انطلاقا من التمييز بين مستويات التطبيق المشار إليها سابقا.
أ - واضح أن نشاطا من النمط الأول لن يجد له امتدادا في أي من المستويات الثلاث التي نريد تقصيها. فالنشاط لا يخضع لأية سلطة ولا يسمح بأية عودة إليه. استخدام النشاط الفكري منعدم، والتجربة الشخصية للفرد لا تغتني، ولا تضيف أية خبرة. وبين الفعل السابق والفعل اللاحق يتقدم الفرد في السن دون أن يغني تجربته.
ب - تتغير الوضعية تماما حالما يتعلق الأمر بالنمط الثاني من النشاط. فالفرد يستجيب لمؤثرات الوسط عبر سلسلة من الأفعال والسلوكات والممارسات المكتسبة دون الذهاب بعيدا في البحث عن حل للمشاكل التي تعترضه. إنه فرد مهووس بالتنفيذ الآلي اليومي، وتفكيره موجه كلية إلى ما يقوم به من فعل، وإلى تحسين فعله التربوي حتى وإن لم يكن، في الحالات القصوى، ذا علاقة بالتكيف مع الوضعيات الحقيقية.
-يظل البحث محصورا في مدار الفعل المباشر، فيطبق الفرد، في أحسن الحالات، ما قدم له من وصفات بشكل رائع، لكنه خال من كل أصالة وإبداع.
-يكتسب الفرد شكلا من الممارسة المتكررة، فلا تراوح خبرته منها مكانها، بعد وقت قصير، ستصبح هذه الممارسة ذاتها جزءا من شخصية الفرد، لدرجة اعتبارها معرفة صلبة ويقينية. إنها حالة المدرسين الذين بعد تقديمهم نفس الدروس لسنوات عديدة -مع تفاوت في الدقة- يعتبرون أنهم قد اكتسبوا معرفة واسعة بمواضيع هذه الدروس، والتي لا تماثلها في القيمة أية معرفة نظرية أخرى. إنهم لا يقبلون بتاتا أن يفكر الآخرون عكس ما يتقنونه من معرفة، لأنهم متأكدون أنهم على حق "بناء على تجربتهم". لكل منا معرفة بأساتذة شيوخ يتبجحون بترديد: "عندما تصبح لكم تجربة هذه السنوات العديدة مثلي…"، قولة تصبح حاجزا منيعا أمام كل تطور. يماثله في هذا الإسكافي الذي لا يتقن سوى صنع نوع واحد من الأحذية، دون القدرة على تعديل التصاميم الأولية حتى تساير أشكالا أخرى وأنماطا جديدة؟ وهكذا يصبح الاهتمام متزايدا، بالفعل، بالإجراء عوض المنهج وبالتنفيذ المباشر عوض الرؤية الشاملة وبناء الفعل. فإذا كان المعلم يصحح الأخطاء الإملائية التي يرتكبها التلاميذ، فإنه لا يفكر في طرق تجنب الوقوع فيها من جديد؛ يصحح الأخطاء دون تطبيق أي بيداغوجية ذكية وفعالة في درس الإملاء.
-بإمكاننا أن نضع اليد على ما ينتج عن أي موقف من المواقف من عواقب، سواء تعلق الأمر بالراشدين أم بالأطفال. ففي مستوى أعلى، يرتكز التكوين المهني للمدرسين على تلقين الطلبة-المعلمين وصفات جاهزة وطرق للاشتغال، وكأن النظام التربوي يعيد إنتاج وضعيات لا تتغير لا في المكان ولا في الزمان. فيتحول التكوين البيداغوجي إلى مجموعة "طرق العمل". ويصبح للطلبة-المعلمين قدوة يتشبهون به متمثلا في نموذج "أحسن معلم". أما في مستوى أقل، فيتعرض تكوين التلاميذ لخطر بيداغوجية الوصفات الجاهزة، التي تحول دون تحفيزهم على التفكير، وعلى جعلهم يبحثون بأنفسهم عن سبل حل المشاكل: إنها تحمل معها حلا جاهزا للمشاكل، وهو الميدان المفضل لـ"بيداغوجية التماثل la pédagogie de la convergence"، حيث إننا إزاء بيداغوجية مستوحاة من بيداغوجية هوكسلي A. Huxley القائلة "بالأفضل بين الأقران".
-لا بد من الاعتراف بأن الأوساط المعنية (البيداغوجية والمهنية) لا تتخذ دائما موقفا نقديا تجاه بيداغوجية من هذا القبيل. فتلك الأوساط، ولتمجيدها لـ"التكوين التطبيقي" ترى أن لهذه البيداغوجية الفضل في عدم تعويد التلاميذ والعمال التفكير والتبصر، ومن ثمة طرح الأسئلة. فتكون سعادة المشغلين عارمة إذا اكتفى العمال بالامتثال لما أمروا به، وبتشغيل الآلات التي يعملون عليها تشغيلا سليما! إذ الممارسة العملية هي الأهم دون سواها. كم ستكون الحياة العملية سعيدة وهي خالية من طلبات العمال! تحليلنا قد يأخذ هنا، أبعادا اجتماعية-سياسية، لذا نكتفي بهذه الإشارة، مذكرين أن التطبيق العملي لا يتطور في الفراغ وإنما ضمن فضاء إنساني، وتاريخي، واجتماعي، وسياسي يصبغ عليه معناه الكلي.
ج - مسألة العلاقات الكائنة بين التطبيق والنظرية والبحث ستأخذ أبعادها الحقيقية مع الممارسة العملية التي سبق لنا اعتبارها من النمط الثالث. التطبيق هنا لا ينفصل عن التفكير والبحث عن الحلول، وعن التدخل المكثف للنشاط النفسي. كل موقف يبدو وكأنه مشكل يتطلب حلا، مشكل يستوجب حلا يناسبه. إن التطبيق ليس استعمالا آليا ممنهجا للوصفات الجاهزة، بل إنه الاحتفاظ بالذهن في حالة تيقظ مستمر، مما يجعل التطبيق يقترن بالتفكير اقتران الروح بالجسد. وعليه، فالقيام بفعل قصدي هو، قبل كل شيء، إبراز المشكل والعمل على إيجاد الحل المناسب له؛ أما إبراز المشكل فهو تحديده، وتحليل مكوناته المختلفة وأوجهه المتعددة، وتحليل علاقاته بالسياق العام (المحيط). أما العمل على إيجاد الحل المناسب للمشكل فالمقصود منه الاستعمال الأصيل والغير النمطي لخطاطات الفعل المتوفرة قبلا أو المكتسبة خلال تكوين ما، كما يقصد به، بطبيعة الحال، البحث عن خطاطات فعل أخرى الغرض منها الوصول إلى الحل السليم. من الضروري أن تصاحب هذه العملية رؤية نقدية تجعل من كل مرحلة من مراحل حل المشكل وقفة لتقييم مدى ملاءمة الحل المبتكر وفعالية نتائجه. لتوضيح قولنا هذا نقدم، فيما يلي، تعليقا وتفسيرا.
"اكتشاف المشكل"-الواقع أن الخطوة الأولى لكل تطبيق ذكي هي معرفة طبيعة المشكل المطروح ولماذا طرح. لنضرب مثالا على هذا بجماعة القسم أو جماعة المتكونين، حيث يلاحظ الأستاذ أو المنشط أو المكون، وقد شرع في نشاطه التربوي، أن هناك نوعا من الاعتراض (المقاومة) من قبل المجموعة الجالسة أمامه والتي يطمح في مشاركتها. إذا كان المدرس ينتمي لفئة المستوى 2، الذي سبق لنا التعرف عليه، فسيطبق وصفته الجاهزة مثيرا بذلك معارضة أكبر أو إهمالا كبيرا من قبل المستقبلين، وذلك نتيجة عدم وعيه باختلاف الوضعية الحالية عن الوضعيات السابقة التي خبرها من قبل. أما المدرس أو المنشط المنتمي لفئة المستوى 3، فسيدرك منذ البداية أن هناك وضعية مختلفة عن التي كان يتوقع، وسيتساءل عن السبب في هذا الاختلاف، فيعمل على تحليل المتغيرات المحددة للوضعية لمعرفة أيها يسبب الصعوبة، أو الصعوبات المواجهة حاليا. هذا أمر يتطلب من المدرس أو المكون أن تكون له دراية مسبقة بتحليل الوضعيات التربوية (Mialaret, 1991) مما يعني اكتسابه، من خلال التكوين، للعناصر الأساسية للنظرية البيداغوجية وللبحث في المجال التربوي. انطلاقا من مستوى التكوين هذا يجب (بل وجب) أن يعمل التطبيق، والنظرية والبحث بطريقة متساوية، وعلى قدم وساق.
"البحث عن الحلول" - يتعلق الأمر هنا، سواء بالنسبة للأستاذ أو المكون أو المنشط، بالبحث عن الحلول الملائمة للمشكل الذي تطرحه الوضعية. الحل ليس آنيا ولا آليا (كما سيكون عليه الحال إذا ما تموقعنا في المستوى 2 الذي عرفناه قبلا). إن خطاطات الفعل التي اكتسبها الفاعل من قبل، تستعمل كما هي أو تستعمل في نطاق لم تخلق له أصلا، مما يستدعي، أحيانا، ابتكار تقنيات فعل جديدة. في هذه اللحظة بالذات، يصبح من الضروري أن يتصف الممارس أو الباحث بسمة أساسية ألا وهي: المخيال المبدع. لا علاقة لهذا الأخير بالمخيلة la folle du logis التي يتخوف منها البعض، لكون ديناميته تدخل ضمن الإطار النظري الذي يعتمد عليه الفاعل التربوي: فهو لا يؤدي إلى فعل غير مراقب (حالة المستوى1) ولا إلى سلسلة أفعال مقولبة Stéréotypées شبيهة بـ"المفتاح العمومي" (حالة المستوى 2). المخيال المبدع يؤدي بالفاعل التربوي، على العكس من ذلك، إلى تمثل صيغة الفعل تمثلا جيدا، وتحديد طبيعته ووظائفه التحديد الدقيق: إذ تتم، بالفعل، مرافقته بتفكير ذي طابع نظري حول مدى ملاءمة صيغة الفعل المتبنى للوضعية. وعليه تصبح ضرورة التنسيق ما بين معطيات الوضعية، والإحالات النظرية، وصيغ الفعل الجديدة المختارة، أمرا أساسيا عند البحث عن حل يلائم الوضعية.
ليس البحث عن هذا الحل من اختصاص المدرس أو المكون فقط، فقد سبق أن نبهنا إلى أن فعلنا لا يأتي من فراغ، بل إنه في تفاعل مستمر مع الوسط المحيط، الإنساني منه والجغرافي والمادي. إننا هنا أمام واحدة من أهم خصائص الفعل التربوي الناجح: ضرورة إشراك المعنيين بالفعل التربوي في تكوينهم الخاص. فما دام الفعل الذي يود المربي القيام به فعلا منظما يستشرف التأثير إيجابيا على المربى، فلقد أصبح حريا على هذا الأخير، حاليا، أن يكون "المربي لنفسه" le "s'éduquant ". كل هذا يدخل في إطار ما أكد عليه كانط من تقليد كبير مؤداه أن الإنسان هو الذي يؤسس معرفته وأنها ليست انعكاسا بسيطا للأفكار الأبدية؛ موقف سيقول به كذلك جان بياجيه في إطار نظريته البنائية، كما سيقول به أصحاب التيارات التربوية الحديثة ( وفي هذا الصدد تظل صياغة فريق G.F.E.N القائمة على "الإنبناء الذاتي – الاجتماعي للمعرفة" متميزة). إن إشراك التلاميذ أو الراشدين في البحث عن حل للوضعيات فعل تربوي من مستوى عال جدا (فعل تنكره البيداغوجية التقليدية التي تفرض الطريق الذي على الجميع تتبعه). وعليه فالبحث عن الحلول مسؤولية الجميع، والمربي مطالب بجعل هذه المرحلة من التكوين عنصرا من مشروع فعله التربوي. البحث عن الحلول وإيجادها تشكل معرفة جديدة تنضاف للفاعل التربوي (مدرسا كان، أم مكونا أن منشطا)، وعنصرا من عناصر تعلمه و "تجربتـ (ـه) المعيشة"؛ وتبعا للمبدإ الذي تعرفنا عليه سابقا، فالمعرفة الجديدة المكتسبة أحسن وأفضل نظرا لمشاركة الفرد في بلورتها وإدماجها المباشر في ممارسته العملية. إن التجربة المكتسبة ليست إذن تجربة معززة للخطاطات المكتسبة والمستعملة قبلا (حالة المستوى الثاني)، بل إنها معرفة مغتنية ومبتكرة، لا تسجن المعني في سلوكات سابقة، وإنما تجعل منه فردا منفتحا على كل الوضعيات المستقبلية، وتنمي لديه موقفا إيجابيا من التغيير يعتبره العديد من الفلاسفة والبيداغوجيين موقفا ضروريا من أجل العيش في الحضارة المعاصرة والتكيف مع العالم الحديث (Mialaret, 1991). ألسنا أمام واحد من المرامي الأساسية للتربية الحديثة؟
كل تطبيق ذكي (من نمط المستوى الثالث) يصاحبه بالضرورة "مجهود تقييمي" للآثار المحدثة. ففي حالة تطبيق من النمط الثاني يستعمل الفاعل التربوي الخطاطات المعروفة، فإن كانت النتائج غير مقنعة فإنه يميل إلى إلصاق سبب الإخفاقات بالتلاميذ والراشدين بدعوى "أنهم دون المستوى" أو، بشكل أشد قسوة، " أنهم بلداء". أما في حالة تطبيق من المستوى الثالث لا تشكل مسؤولية التلاميذ والراشدين التفسير الوحيد للوضعية، بقدر ما يتم تحليل النتائج حسب المتغيرات الكائنة. فالممارس للمستوى الثالث يعلم أن عوامل عديدة تدخل في كل وضعية تربوية معطاة، وأن فشل الوضعية إنما تشارك فيه وتساعد عليه هذه العوامل إما بشكل انفرادي أو ثنائي أو ثالوثي، أو بشكل جماعي، عوامل نذكر منها: الوضعية العامة، مجموعة المدرسين، مجموعة التلاميذ، عوامل خارجية، عوامل بنيوية… علاوة على ذلك، لا يمكن قط أن يكون فشل الوضعية من فشل التلاميذ: قد يعود سبب فشلها إلى المدرس، أو إلى الوضعية، أو إلى حجم ومحتوى الإرساليات المبعوثة (مفاهيم صعبة أو مقدمة بشكل رديء) (Mialaret, 1994). ويتزايد وعي الممارسين للمستوى الثالث بتعقد الوضعية التربوية وتعقد المحددات الفاعلة، التي تحددها وتوجه دينامياتها. فبقدر ما يتم الوعي بهذه العمليات، بقدر ما يصبح التطبيق مدرسة تكوينية بامتياز، وبقدر ما يمكن التأكيد على أن الإنسان يصير :"نتاج أفعاله عوض أن يكون السبب الدائم للأفعال الظرفية" (Dessanti, 1969). هذا الوعي سيبيح في ذات الوقت ابتكار فرضيات جديدة، وتدقيق بعض أوجه النظرية، والعمل على تغيير بنية النظريات الحالية اعتمادا على التطبيق الواقعي الذي تم تنفيذه بشكل ذكي. أضف إلى أن الموقف المنفتح و"القلق"، سواء للمدرس أو المكون، يحمله على التساؤل وإبراز المشاكل المطروحة، وبالتالي، على تبني أحد الشكلين الأساسيين للبحث في المجال التربوي: البحث من نمط النهج العلمي praxeologique، والبحث ذي الصيغة العلمية في المجال التربوي.
أثناء القيام بهذا النوع من التحليل تبرز المظاهر الجدلية للعلاقات الكائنة بين التطبيق، والنظرية والبحث. من البديهي أن يؤدي البحث عن حل لمشكل التطبيق إلى إحداث تغييرات عليه، وبالتالي، إلى إغنائه وإغناء البحث على حد سواء. إن التفكير في الجوانب النظرية لمسألة الممارسة التطبيقية يقود إلى إعادة النظر في أسس هذه النظرية وهي في حضرة حالة واقعية، وكذا إلى بلورة هذه النظرية وتحسينها انطلاقا من تأهيل التطبيق لأخذ مك